طلال سلمان

حرب سلام اسرائيلي

من الصعب التمييز بين »الحرب« وبين »السلام الإسرائيلي«،
إن لهما، في المسلك السياسي الإسرائيلي، الملامح ذاتها، والأسلحة نفسها، والأساليب إياها، حتى ليختلط الأمر على الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى: أهو سلام الحرب أم هي حرب السلام؟!
فإسحق رابين لا يتعب من دعوة لبنان إلى »السلام« وباللغات النارية جميعù:
} بالقصف المدفعي اليومي والمنهجي للبلدات والقرى المزارع في جبل عامل والبقاع الغربي،
} بالغارات المبرمجة والتي يشارك فيها الطيران الحربي (متى صفا الطقس) فإذا ما تلبّدت السماء بالغيوم وتعذّرت الرؤية من على البعد، جاءت الحوامات لتتولى المهمة، ضمانù لحسن التسديد ودقة الاصابة،
} وأخيرù بالحصار البحري للشاطئ اللبناني من أقصى نقطة جنوبù، عند الناقورة، حتى مشارف بيروت، كما تكامل في يومه العاشر، ولعله يمتد شمالاً إلى النهر الكبير في الأيام القليلة المقبلة،
وها هو يجيء بحكومته جميعù (13 وزيرù من أصل 17)، بالأمس، فيعقد مجلس الوزراء الإسرائيلي جلسة استثنائية في مرجعيون المحتلة و»برئاسة« أنطوان لحد، لكي يجدّد دعوة اللبنانيين إلى »سلامه« وبكلمات مختارة بعناية فائقة:
»لو أن حكومة لبنان توجهها مصالح لبنان الوطنية وحدها، لبات ممكنù القول إننا نستطيع التوصل إلى سلام بيننا وبين لبنان في غضون تسعة أشهر… لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار التركيبة السكانية اللبنانية…«.
وبعد العرض السخي، تجيء النصيحة الانذار:
»على الحكومة اللبنانية أن تتعلّم كيف تتعامل مع أعداء السلام مثل »حزب ا”«…«.
قبل شهر واحد، وخلال الزيارة »التفقدية« السابقة للشريط المحتل في جنوب لبنان، كان عرض رابين أكثر غموضù، إذ قال إنه مستعد »لانجاز السلام مع لبنان إذا نزعت حكومة هذا البلد سلاح »حزب ا”«، وضمنت فترة هدوء لستة أشهر في الحزام الأمني«،
إذù، فقد أضيف الآن عنصر »التركيبة السكانية اللبنانية«، ولعلّ ذلك ما استدعى إضافة الشهور الثلاثة إلى مدة العرض الانذار بالسلام الحربي.
كذلك فقد »اعترف« رابين بوجود »حكومة« في لبنان، ولكنه أخذ عليها عدم التزامها مصالح لبنان الوطنية، كما سجل عليها الجهل أو العجز عن التعامل مع »حزب ا”« بالأسلوب الذي يخدم »سلامه« الدموي.
* * *
كان الغرض من تجنيد طابور المرتزقة بقيادة أنطوان لحد أن تطمئن حكومة إسرائيل، وأن تستطيع بالتالي طمأنة الإسرائيليين إلى صمود »سلام الحرب« على »الحدود الشمالية«!
الآن يأتي إسحق رابين بحكومته كلها إلى مرجعيون المحتلة، حيث مقر »طابور المرتزقة« ليطمئنها وقائدها لحد، إلى أن إسرائيل لن تتخلى عنها، وإلى أنها ستقدم المدفن لكل من يسقط قتيلاً من أفرادها، والمستشفى لكل جريح، والتعويض المناسب للأرامل والأيتام جميعù.
ومن فوق رأس لحد، يقول رابين ما مفاده إن حكومته لا تصدق تقارير هذا »العميل« الذي منح رتبة »جنرال«، ولا هي تصدق تقارير رجال مخابراتها، خصوصù بعد فضيحة قتل الضابط الإسرائيلي الجريح بيد جنوده خوفù من أن تكون جثته مفخخة، قبل أيام!
فلقد كشف الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية، أوري درومي، تفكير رئيسه حين قال: »إن رابين يعتقد بأنه يجب على الوزراء أن يروا بأنفسهم أن حرب استنزاف تدور في جنوب لبنان«.
الهدف، بالتالي، هو إقناع الوزراء الإسرائيليين بضرورة التوغل قدمù في الحرب، طلبù للسلام الإسرائيلي.
لا مجال لشبه حرب، أو لنصف حرب. السلام يتطلَّب حربù شاملة. هذه هي الرسالة.
* * *
حقيقة الأمر ان هذه الحرب مفروضة على لبنان منذ دهر، يمكن التأريخ لبدايته بإقامة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، أما نهايته فمتروكة في انتظار أن يجيء »الزمن العربي«،
إنها »حرب السلام« التي لا بد سيعقبها »سلام الحرب«، كما شهدنا ونشهد على الجبهات الأخرى من مصر إلى الأردن مرورù بغزة ورئيس سلطة الشرطة فيها ياسر عرفات.
»حرب السلام« تقضي باستئصال آخر مقاوم أو معارض أو معترض على »السلام الإسرائيلي« بنصه المفرد وغير القابل للتبديل أو التعديل،
أما »سلام الحرب« فيقضي بتسليم المقدرات جميعù، في السياسة كما في الأمن، وفي الاقتصاد كما في الشأن الاستراتيجي، للعبقرية الإسرائيلية بغير شريك لتقرّر مستقبل الجميع في أمبراطوريتها التي ستحمل بعد الآن اسم »الشرق الأوسط الجديد«.
»حرب السلام« تقضي في غزة بأن يطارد حرس الحدود الجديد بقيادة عرفات آخر فلسطيني يقول »لا للاحتلال«،
و»سلام الحرب« يقضي بأن يبقى لإسرائيل وحدها الحق في إنتاج السلاح النووي وتخزينه والتهويل به لمصادرة المستقبل العربي وضمان سقوط هوية هذه الأرض التي كانت عربية تمهيدù لمسخها كيانات قزمية تافهة في »الشرق الأوسط الإسرائيلي الجديد«.
* * *
إن رابين يشارك على طريقته في الاحتفال المقرّر بالذكرى السابعة عشرة للاجتياح الاسرائيلي للجنوب في 14 آذار 1978.
ولأنه لم يثق بعد بقيام »حكومة مركزية قوية« في لبنان فقد جاء بحكومته هو لكي تتولى شؤونه بنفسها فلا يبقى من دون دولة.
إنه نصر جديد لسياسة الصمود التي تقودها سوريا ويشارك فيها لبنان بلحمه ودمه.
إنه نصر جديد للمقاومة التي استولدت الآن رديفها في الداخل الفلسطيني، ولعل ردائف أخرى في الطريق للمساهمة في صنع سلام من نوع آخر.

Exit mobile version