فجأة، ومن دون سابق انذار، تفجرت الحرب ضارية بين السعودية ومعها دولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين من جهة، والامارة المن غاز، قطر، من الجهة الثانية… ثم سرعان ما انضمت مصر وليبيا المشطرة ويمن المنصور هادي اللاجئ إلى السعودية، فضلاً عن السودان وجيبوتي وجزر المالديف إلى التحالف الجديد في مواجهة الدوحة التي لم تجد لها حليفاً غير تركيا اردوغان الذي اغتنم “الحرب بين الاخوة العرب” لتكثيف وجوده العسكري في الدوحة.
أما الرئيس الاميركي دونالد ترامب، الذي حظي بلقاء الفاتحين في الرياض حين منح السعودية شرف زيارته الاولى للخارج، والذي حشدت له المملكة المذهبة خمسين دولة عربية واسلامية للترحيب به زعيماً وقائداً، فقد حاول التخفف من حرجه عبر تبرعه بدور الوساطة لوقف الصراع بين الاشقاء، ورثة داحس والغبراء.
حتى هذه اللحظة، لم يعرف أحد السر وراء انفجار هذه الحرب، وان كانت سياسات الدوحة الامبراطورية طالما شكلت تجاوزاً للمملكة الاغنى منها والاقوى بموقعها وتحالفاتها، وان ظل التلاقي في افياء البيت الابيض هو الرابط المقدس، مع أن شيئاً من التنافس على المرتبة الاقرب من الرئيس الاميركي قد اشتد بين امير قطر من جهة، وكل من الامير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في السعودية، ومعه الشيخ محمد بن زايد، ولي العهد في دولة الامارات.
على أن هذه الحرب التي تأخرت كثيراً عن موعدها المفترض، نتيجة تطاول قطر على دور “الكبار”، واجتياحها مساحات واسعة نفوذا ومكانة في المحيط العربي (والافريقي) كما على المستوى الدولي، في اوروبا خاصة ثم في الولايات المتحدة الاميركية، لا سيما مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض.. كل ذلك كان يعمق اسباب التنافس ثم التصادم بين الامارة الصغيرة بمساحتها الغنية بغازها وبين المملكة المذهبة التي وجدت ـ اخيراً ـ أن المسرح العربي مفرغ من القيادات التاريخية ذات التأثير، ثم أن معظم دوله ذات الدور المسلم بشرعيته تعاني من ازماتها الداخلية بعنوان الفقر والاحتياج إلى الخارج، العربي اساساً، ومن ثم الدولي لإطعام شعوبها.
ومؤكد أن شيخ قطر الذي ازاح اباه الشيخ حمد بن خليفة بهدوء، ومعه وزيره البارع حمد بن جاسم، قد زينت له نفسه ونجاحه في شبكة من العلاقات الدولية، بفضل ثروته الخرافية، أن يتقدم إلى موقع القيادة، متحاشياً ـ ما امكن ـ التصادم مع السعودية، مستهيناً بعلاقات ولي العهد في ابو ظبي وطموحاته إلى لعب دور قيادي من موقع الحليف المساند للسعودية وصاحب الحظوة لدى الرئيس الاميركي الجديد الذي سبق أن التقاه فأعجب به وحالفه وهو مرشح للرئاسة، خوفاً من “الامرأة الحديدية” هيلاري كلينتون.
بل أن وريث الشيخ زايد بن سلطان على رأس دولة الامارات قد تنبه مبكراً إلى خطورة الدور الذي يطمح إلى لعبه الامير محمد بن سلمان، والذي يعتبر نفسه “الوريث الشرعي الطبيعي” لوالده الملك سلمان، وقد عزز هذا الطموح بخطة “المملكة 2030″، وهي خطة اعدتها له بعض اشهر بيوت الخبرة الاميركية والهدف منها مسح صورة المملكة المتخلفة والمتحصنة بثروتها النفطية والتقدم للعب دور قيادي على المستوى العربي والافريقي تحت رعاية الرئيس الاميركي الجديد دونالد ترامب، الذي اظهر اعجابه بهذا الامير الشاب المتأمرك تحت عباءته المقصبة.
قام، اذن، “حلف المحمدين” كمشروع قيادة للمنطقة العربية جميعاً، بعنوان مواجهة “الخطر الفارسي” الذي تمدد في المشرق متحصناً بمعاداة اميركا واسرائيل وورثة “القاعدة” من عصابات “داعش” وما اشتق منها او تحالف معها نتيجة الانهيارات في لنظام العراقي والحرب في سوريا وعليها..
كان الهدف اكتساب مصر إلى هذا التحالف، والا فالطلب منها الا تعارضه وتتصدى له، باستغلال حاجتها إلى الدعم لمواجهة اوضاعها الاقتصادية المأزومة والتي تنذر بتفجر اجتماعي خطير..
ولقد جاءت العمليات الارهابية التي ارتكبها “الدواعش” في بعض انحاء مصر (تفجير الكنيسة المرقصية في العباسية بالقاهرة، ثم الكنيستين في طنطا والاسكندرية في يوم واحد) لتؤكد احتياج مصر إلى مساعدة امنية …ولقد تقدمت الامارات لتساند في الحرب على خلايا داعش في بعض مناطق ليبيا، خصوصاً بعد جريمة قتل الاطفال الذين كانوا في طريقهم لزيارة دير الانبا صموئيل في المنيا.
من باب استكمال الصورة: لا بد من التذكير بالأزمة الخطيرة التي عصفت بالعلاقات المصرية ـ القطرية بعد اسقاط حكم الاخوان المسلمين، وهرب الكثير من قياداتهم إلى كل من الدوحة واسطنبول، ثم تولي الدوحة وعبر محطة “الجزيرة” ووسائط أخرى مؤثرة، رعاية الاخوان وشن حملة مفتوحة على الحكم في مصر ما تزال مفتوحة حتى اليوم.
بالمقابل فان قطر في سعيها إلى الدور القيادي، عربياً واسلاميا، قد تجاوزت الحدود مع العديد من الدول العربية: العراق، بداية، ومن ثم سوريا حيث ترعى مجموعة من الفصائل المقاتلة ضد النظام وتزودها بالمال والسلاح… يضاف إلى ذلك تحالفها مع تركيا التي تمر علاقتها مع السعودية (ومن معها) بمرحلة برودة.
على هذا فقد وجدت السعودية الفرصة سانحة لتوجيه “الضربة القاضية” إلى قطر، مفيدة من انتصارها الدبلوماسي الكبير عبر نجاحها بعقد القمم الثلاث مع ترامب والتي جمعت في الثالثة منها حوالي خمسين دولة عربية واسلامية.
في هذه اللحظة الحاسمة لم تجد قطر نصيراً لها إلا تركيا، التي وجدتها فرصة سانحة للإفادة من الخلاف العربي لتوطيد وجودها في الامارة المن غاز إلى جانب الاميركيين في قاعة “العيديد” والسفارة الاسرائيلية في الدوحة.
…في هذا الوقت كانت اسرائيل تقرر بناء مزيد من المستوطنات في الارض الفلسطينية المحتلة (بما في ذلك الضفة الغربية التي يفترض انها من نصيب السلطة التي لا سلطة لها في رام الله) وتواصل سياسة القتل اليومي للشباب الفلسطيني … ثم تتسلح بزيارة ترامب لحائط البراق (الذي يسميه الاسرائيليون الهيكل) لكي يعقد مجلس وزرائها برئاسة بنيامين نتنياهو جلسة في القبو القائم تحت الجدار ـ ملامساً لأساسات المسجد الأقصى..
لم تتحرك اية دولة عربية في مسعى للمصالحة بين الاشقاء الاغنياء، سواء بالغاز ام بالنفط..
وفي حين وقفت اوروبا محايدة لا ترغب في أن تتخذ موقفاً منحازاً للحفاظ على مصالحها في مجمل المنطقة العربية الغنية، فقد تبرع الرئيس الاميركي دونالد ترامب بان يلعب دور الوسيط ودعا “الاخوة ـ الاعداء” إلى التلاقي عنده وبضيافته في البيت الابيض لكي يحكم بينهما بعدل النفط وقسطاس الغاز.
العالم يتفرج الآن على عرب القرن الواحد والعشرين، الاغنياء منهم على وجه الخصوص، وهم يستعيدون تقاليدهم في حرب داحس والغبراء… وتلجأ السعودية كما قطر إلى بيوت الخبرة الاجنبية في الدعاية والاعلان، للتشهير “بالأخ الشقيق”..
المرجح أن تتراجع قطر، بالنتيجة، استجابة لمساعي رجل المهمات الصعبة امير الكويت الشيخ صباح الجابر، الذي جال بين الدول المتخاصمة، يحذر من تفجر الاوضاع بين الاخوة الاغنياء، طالباً من الدوحة تلبية مطالب اشقائها وأقرانها في مجلس التعاون الخليجي.. حتى لا تخرج إيران رابحة من “حروب الاخوة”، ولعل الخلاف الآن ينحصر على “ثمن التوبة” التي يمكن أن تنهي فعاليته، فقط، في مواجهة “الاخوة الفقراء”.
أما إغلاق القاعدة الاميركية في العيديد والسفارة الاسرائيلية في الدوحة، فليستا بين مطالب الاشقاء الغاضبين من الشيخ تميم الذي ادعى اتصال نسبه بإمام الوهابية محمد بن عبد الوهاب… وهذا أكثر ما أغضب الاسرة السعودية الحاكمة بإسم مؤسس مذهب التطرف في الاسلام السياسي..
والحمدالله انه قد يسر من يُصلح امر المسلمين!