طلال سلمان

حرب اهلية كعقاب منتصرين على حرب اسرائيلية

لم يتصل بعلم أهل السياسة في لبنان، وفيهم قادة ملهمون وزعماء مخلدون وعباقرة في التحليل والتفسير وقراءة النوايا يقيمون في الفضائيات المحلية والعربية ليلاً ونهاراً ويتخذون منها منابر لتبادل الشتائم والإهانات وتحقير المواطنين، بل والمشاهدين عموماً في عقولهم ومداركهم، أن تقريراً خطيراً قد صدر في إسرائيل حول حربها على لبنان قبل تسعة عشر شهراً، وهي التي ما تزال آثارها واضحة في شهدائها، من قضى منهم ومن ينتظر، وفي أسباب العمران التي تنتظر الإدارة الكفوءة والمال الكافي لإعادة بنائها..
وبطبيعة الحال فإن أهل النظام العربي، بمستوياتهم المختلفة، لم يجدوا فائضاً في أوقاتهم يصرفونه في ما لا طائل منه: تقرير لجنة فينوغراد حول الحرب الإسرائيلية على لبنان… ذلك أنهم قرّروا، ومنذ الرصاصة الأولى في تلك الحرب، أن إسرائيل معتدى عليها، وأن المعتدي يجب أن يعاقب (وإن كانت الإدارة الأميركية قد أحرجتهم فكادت تخرجهم حين أمرت بمد زمن الحرب التي عجز الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر عن تحقيق أهدافها بالسرعة المطلوبة..).
حتى الإعلام العربي، ومنه اللبناني طبعاً، قد تعاطى مع التقرير باعتباره خبراً داخلياً إسرائيلياً قد يؤثر سلباً على معنويات حكومة أولمرت، ولكنه لن يكون كافياً لإطاحتها، وبالتالي فهو لا يعني العرب ، خصوصاً وأنه يشهد لمجاهدي المقاومة في لبنان بما لم يحبوا سماعه في الماضي ولا يريدون قراءته اليوم ولا من قد يعود إلى محاسبتهم على أساسه غداً.
فأما أهل النظام العربي فقد استطاعوا بعد الحرب بشهور قليلة عقد قمة احتشد فيها الملوك والسلاطين والرؤساء والأمراء جميعاً، من دون التوقف لحظة أمام تلك الحرب، ولو لقراءة الفاتحة على أرواح ضحاياها (ولا نقول الشهداء حتى لا نحرج..)..
بل إن تلك الحرب الإسرائيلية قد سهّلت لهم عقد القمة وعقد الخناصر على مبادرة السلام العربية، مع تعديلات وتخفيضات وتسهيلات في الدفع مغرية، إذ أتاحت لهم أن يقولوا للإدارة الأميركية: إننا جاهزون لاستنقاذ أولمرت وحكومته وترميم أوضاعه المنهارة، فليخجل وليساعدنا ولو في الشكل لننهي الأمر، وكفى الله المؤمنين شر القتال!
بل إن هؤلاء الذين تلاقوا على القمة المضادة للحرب قد لبّوا النداء عجالاً إلى مؤتمر أنابوليس الذي كان الهدف الأساسي منه منح الثقة مجدداً لحكومة الحرب الإسرائيلية وتعويمها، بما يعوّضها خسارتها الفادحة في لبنان.
وبهذا المنطق فوّضها الرئيس الأميركي جورج و. بوش بإعلان إسرائيل دولة لليهود، دون أن يستدرك أو يحرجه أصدقاؤه العرب بإجباره على الاستدراك حفظاً لحق عرب فلسطين 1948 في أن يظلوا في أرضهم المحتلة ولو كرعايا من الدرجة الثالثة!
لنعد إلى لبنان فمصائبنا فيه تكفي… وإن أضيفت إليها مصيبة جديدة تتمثل في التجاهل المقصود لهذا النصر الوطني العربي، الذي شكّلت إسرائيل اللجان فدرست واستجوبت وحققت ودققت قبل أن تخلص إلى الاعتراف به، وإلى لوم الحكومة وإدانة القيادات العسكرية العليا، مع مراعاة موجبات سلامة الدولة الإسرائيلية !
وهي مصيبة لأن هذا التجاهل خبيث في أغراضه، وأولها أن يظهر وكأن الانقسام السياسي في لبنان قد طاول التسليم بوحدة الوطن ووحدة شعبه…
فمن يحاول القفز من فوق نتائج هذه الحرب، بعدما زوّر بقرار واع أسبابها ومن بدأها، والذي جاء تقرير فينوغراد ليكشف أنها بدأت بقرار إسرائيلي ثم استكملت بالأمر الأميركي الصريح.
.. ومَن يحاول تحقير بطولات المجاهدين الذين بذلوا دماءهم سخية ونجحوا في مواجهة واحد من أعتى جيوش العالم وأعظمها تسليحاً، فأفشلوا هجماته المتكررة على مدار الساعة في البر، وأخرجوا من المعركة سلاحه البحري، أما الجو فلم تكن لهم طاقة على صده لأسباب معروفة..
.. ومَن يستهين بتضحيات غير محدودة بذلها شعبه، في الروح والبيت والمال والحاضر والمستقبل، ويستهين أيضاً بالتضامن العظيم الذي جسّد وحدة موقف هذا الشعب في مواجهة الحرب الإسرائيلية، في مختلف مناطق لبنان وبين أبنائه جميعاً..
ومن يشفق من الحديث عن أشلاء الجنود الإسرائيليين الذين سقطوا في أرض وطننا خلال هجماتهم على هذا الوطن وأهله، ولا يشفق على وطنه وعلى إخوته في هذا الوطن.
… ومَن يحاول الاستمرار في محاصرة المقاومة وإحراجها لإخراجها وزجها في حرب أهلية مدمرة، يضيع فيها مع النصر الوطن جميعاً، بذريعة أنها وحلفاءها ليسوا أقوياء بما يكفي ليكونوا شريكاً في سلطة تحتاجها البلاد قادرة ومعافاة وجامعة لكل القوى والهيئات لتستطيع النهوض بمهمة إعادة البناء، ومواجهة احتمالات الحرب الإسرائيلية التي ما تزال مفتوحة، ولو بداعي الانتقام والتعويض عن خسارة الحرب السابقة..
كل أولئك يحاولون جديداً لم يحصل عبر التاريخ، في حدود علمنا، وهو الامتناع عن المشاركة في مجد نصر تحقق للوطن في لحظة قدرية، وضد عدو عاتٍ، احتل أرضنا لدهر، وقتل من أهلنا الآلاف، قبل أن نتطلع إلى ما أصاب إخوتنا من أهلنا خارج لبنان على يدي جيشه الجبار الذي كان لا يهزم فهزمه فتية من لبنان آمنوا بربهم (ووطنهم) فزادهم هدى…
… وبعد ذلك، وكأنما بالمقابل يرفضون مشاركة هؤلاء الذين لولاهم لما بقي وطن، في مسؤوليات الحكم في مرحلة مصيرية، بذريعة أنهم لا يمثلون إلا أقلية!
ولم يحصل أن كان مقعد وزاري في أعظم حكومة في الدنيا يعادل قطرة من دماء مجاهدين افتدوا أرض وطنهم بشبابهم الغض (وأهلهم العجزة في البيوت التي دمرها طيران العدو)، وافتدوا معها الحكم والحكومة وسائر المؤسسات..
ومخجل أن تكون لجنة من قضاة العدو، المهزوم في لبنان، قد أنصفت هؤلاء المجاهدين واعترفت ببسالتهم التي أفشلت خطط الجيش الإسرائيلي بكل طاقة نيرانه الهائلة وأسلحته الأكثر تقدماً وقدرة على التهديم والإيذاء (وآخرها القنابل العنقودية التي أشار إليها بيان رئاسة الحكومة، أمس).
لكأنما الحرب الأهلية هي العقاب المقرّر على لبنان، بعدما أفشلت مقاومته التي احتضنها شعبه جميعاً الحرب الإسرائيلية التي شنتها حكومة أولمرت ومدّت زمانها إدارة جورج بوش حتى كان القرار 1701 الذي وفر لها المخرج اللائق !
وأخشى ما نخشاه أن يكون التجاهل المحلي والعربي لتلك الحرب (بنتائجها) ومن ثم لتقرير لجنة فينوغراد وما تضمنه من وقائع تشهد بانتصار المقاومة في لبنان، بين المقدمات التي تمهّد بالحرب الأهلية كعقاب جماعي للبنانيين على أنهم.. لم يُهزموا!

Exit mobile version