طلال سلمان

حرب اميركية حصاد اسرائيلي

مع بداية العدوان الأميركي البريطاني على العراق، باشرت الإدارة الأميركية غاراتها السياسية العنيفة على المعترضين على حربها (من خارج الشرعية الدولية)، لا فرق بين حليف تاريخي كأوروبا »القديمة«، وبين »صديق مستجد« كروسيا، أو بين »عدو سابق« أدار وجهه إلى الناحية الأخرى حتى لا يرى فيحرجه المنظر وقد يخرجه من موقع »الشريك الاقتصادي« كالصين..
وكان منطقياً أن تشتد الحملة وتعنف على »الأقربين« من بين العرب، وبالتحديد من تجرّأ منهم فجهر بإدانة العدوان، و»حرّض« على المقاومة مراهناً على حد أدنى من قدرة النظام العراقي على الصمود، وفي بغداد تحديداً، بما يمكن ويشجع على انتظام مقاومة شعبية واسعة لهذا العدوان، في بلد تاريخه الوطني حافل بتراث مجيد من المقاومة الوطنية للمحتل الأجنبي، ومنذ بداية القرن الماضي وحتى أواخر الخمسينيات منه..
كان منطقياً، بالتالي، أن يتم التركيز على سوريا التي كادت تختصر وتجسّد هذه الدعوة إلى الصمود عبر تمكين الشعب العراقي من إسناد قواته المسلحة بمقاومة قوات الغزو وتعطيل استيلائها على بغداد، لفترة معقولة ومقبولة تمكّن من توظيف الاعتراضات الدولية العالية، والإسلامية والعربية، على ضعفها، في ردع العدوان أو منعه من تحقيق نصر رخيص وسريع يأتيه بالنتائج المرجوة، ويجبره على التراجع وإعادة الاعتبار إلى الشرعية الدولية، واحترام إرادة الشعوب.
لكن فاجعة سقوط بغداد جاءت بأسرع ممّا تمنى العدو الغازي، ومكّنت للاحتلال الأميركي أن يحقق نصراً عسكرياً لا يستحقه، كما أصابت الأمة العربية جميعاً بهزيمة نكراء تهدد مستقبلها فوق أرضها، فضلاً عن حقوقها في تقرير مصيرها فيها.
وهكذا تبدّت سوريا بموقفها القومي، الذي تجاوز رأيها وطبيعة علاقاتها بنظام صدام حسين، وكأنها تهدد »الإنجاز« الأميركي الذي تحقق لإدارة بوش بأسرع مما توقعت وبكلفة لا تذكر إذا ما قورنت بالأرباح المحتملة سياسياً واقتصادياً، ليس فقط بوضع اليد على العراق وثرواته، بل باستخدام هذا »الواقع الجديد« كسلاح خطير في »تأديب« المعترضين الذين بات يمكن الآن اعتبارهم »عصاة« وأن يجبروا على دفع ثمن اعتراضاتهم في مصالحهم (بالنسبة للأوروبيين) أو في أمنهم المباشر كما بالنسبة إلى »المحرّض السوري«، حتى مع الوعي بأن حركته كانت تصدر عن منطق دفاعي أكثر منها عن الرغبة في »مواجهة« لا يرغب فيها قطعاً ولا يطيقها، ولا يقبل أن تصبح »السابقة« العراقية قاعدة في العلاقات الدولية عموماً، وفي علاقة دمشق مع الإدارة الأميركية على وجه الخصوص.
توالت الغارات السياسية عنيفة التهديدات، عسكرية النبرات، على سوريا، وشاركت فيها الإدارة الأميركية بكلكلها: بدءاً من جماعة الضغط الصهيوني داخلها، في البنتاغون أساساً وفي قلب البيت الأبيض وفي الخارجية، ولو بنسبة أقل.
ومع تبلور »الاعتراضات« الشعبية داخل العراق على الاحتلال الأميركي، التي عزز من أهميتها فشل الاحتلال في استقطاب قوى مؤثرة، أو في إحداث فتنة طائفية (أو عرقية) تدمر احتمالات المقاومة وتشغل العراقيين بأنفسهم، كان بديهياً أن تشتد الحملة الأميركية على »الحاضنة العربية المحتملة« ممثلة في سوريا، وأن تمتد الى الخصم التقليدي إيران الثورة الإسلامية، التي خففت من »حيادها« الذي تبدى غير مفهوم مع بداية الغزو، وحددت موقفاً يمكن تسويقه شعبياً تحت عنوان: لا لصدام، لا للاحتلال الأميركي.
فأما سوريا فقد شارك في الحملة عليها الجميع: من الرئيس الأميركي جورج بوش، الى وزير دفاعه رامسفيلد، الى مستشارته للأمن القومي غونداليسا رايس الى بطانة البنتاغون (وولفويتز، شارل بيرل…) وصولاً الى »العاقل« في الخارجية كولن باول.
وفضحت هذه الحملة ما كانت واشنطن تسعى إلى طمسه في غمار عدوانها لاحتلال العراق، وهو الدور الإسرائيلي المباشر في التحريض على هذه الحرب، بل وفي المشاركة فيها، بهذه النسبة أو تلك، وتخطيطها للإفادة من نتائجها ليس فقط في تدمير حق الشعب الفلسطيني في دولة له فوق بعض أرضه المجبولة الآن كلياً بدمه، بل في القضاء على ما تبقى من القدرة أو الحق في الاعتراض على المشروع الإسرائيلي المتماهي الآن مع الخطة الأميركية للهيمنة المباشرة (وبالقوة العسكرية) على كامل المشرق العربي، حتى اليمن السعيد..
… وها هو النائب الأميركي الديموقراطي طوم لانتوس يجيء الى دمشق ليطلق منها المطالب الإسرائيلية في ظل النتائج السياسية للاحتلال العسكري الأميركي للعراق.
لم يتوقف لانتوس، المعروف بأنه أكثر تطرفاً في صهيونيته من أرييل شارون، طويلاً أمام »الإنجاز« الأميركي باحتلال العراق، بل اتكأ على هذا الإنجاز ليقدم لائحة بالشروط الإسرائيلية التي يريد من سوريا أن تلبيها وأبرزها »إنهاء سيطرة »حزب الله« على الحدود مع فلسطين المحتلة، وإقفال مكاتب المنظمات الفلسطينية القائلة بالكفاح المسلح في دمشق، ثم خروج القوات السورية من لبنان«.
طبعاً كان لا بد من أن يموّه ذلك كله بحديث عن ضرورة تحديث النظام في سوريا، واطلاق الحريات العامة، والاخذ بالديموقراطية وحقوق الانسان الخ…
بعد ساعات كان الحاكم الاداري للاحتلال الاميركي للعراق، جاي غارنر، يحاضر في اشتات »المعارضين« العراقيين الذين جمعهم في مؤتمر ثان، في بغداد، بعد مؤتمر الناصرية، عن الديموقراطية، مستعيناً بمترجم افغاني متأمرك بارع هو خليل زاده.. ويدرّس لمن هم مطوقون بدباباتهم حقوق الانسان ومعنى الحرية…
بل لقد ذهب لانتوس الى ابعد من ذلك فتطوع لنقل ما اعتبره »رسالة« من الرئيس السوري بشار الاسد الى السفاح الاسرائيلي ارييل شارون… وتلقف صديقه التاريخي هذه »الرسالة« ورد بانه يرحب بمفاوضات مع سوريا من دون شروط مسبقة!
اكتملت دائرة التهديدات، إذن، خصوصاً ان لانتوس قد اكد في دمشق انه سيعمل شخصياً لاصدار القانون الذي يفرض عقوبات سياسية واقتصادية ضد سوريا، بهدف »اجبارها على انهاء احتلالها لبنان ووقف دعمها للارهاب والتخلي عن اسلحة الدمار الشامل«!!
… وهكذا فان وزير الخارجية كولن باول سيصل لجني ثمار هذه »الحرب السياسية« التي توازي في حدتها »العمل العسكري المباشر«، فيفاوض من موقع قوة لم يسبق ان توفر لاي مسؤول اميركي من قبل: فالدبابة عند باب دمشق، والطائرة الحربية فوقها، و»الدرس« العراقي افصح من ان يحتاج الى شرح…
ثم ان اسرائيل جاهزة لان تتقدم لتتولى انجاز »المهمة القذرة« حتى لا تحرج واشنطن امام »اصدقائها« العرب الذين فتحوا ارضهم ومياههم وسماءهم للطائرات والصواريخ الاميركية حاملة الدمار الى العراق.
انها عملية ابتزاز مكشوفة، سبق لدمشق ان واجهت مثلها مرات.
وهي »حرب وقائية« اميركية لحماية احتلالها للعراق، وهي مهمة لن تكون سهلة، ولن تكون »رخيصة«، في عراق بلا صدام حسين ونظامه.
ولعل »صغار« الاميركيين من امثال لانتوس قد كشفوا اسرار »الكبار« في واشنطن (ومعهم حلفاؤهم الحقيقيون في تل ابيب).
فلنضع عيوننا على فلسطين وما يدبَّر بها،
ولعل هذه »الحرب« على سوريا تستهدف حماية الخطة الاسرائيلية لفلسطين التي ستقدمها واشنطن تحت عنوان »خريطة الطريق«، والتي اطلت مقدمتها الدالة على طبيعتها بشخص »دولة الرئيس« ابي مازن الذي لا مجال للخطأ فيه، لانه يبادر فوراً الى نفي صفة »التعصب الوطني« فضلا عن تهمة الكفاح المسلح عن نفسه، مؤكداً ان ما قد يناله شعب فلسطين هو خلاصة كرم أخلاق إسرائيلي لا اكثر ولا اقل!

Exit mobile version