طلال سلمان

حرب اميركية بجنرال اسرائيلي

جاء كولن باول إلى منطقتنا وزيراً أميركياً برتبة جنرال، وها هو يعود منها برتبة »ياور« عسكري لجنرال »السلام« الإسرائيلي أرييل شارون: بطل اقتحام مخيمات اللجوء في صبرا وشاتيلا (عند أطراف بيروت) وعند مدخل جنين، وبطل تدمير المدن ذات العبق التاريخي كنابلس القديمة، وبطل محاصرة السيد المسيح في كنيسة مهده في بيت لحم.
لن يصدق عاقل أن وزير خارجية الدولة الأقوى في الكون قد حاول ففشل، أو أنه سعى فخاب مسعاه، أو أنه ضغط فذهب ضغطه هباء على من هو في موقع ولي نعمته: مصدر تمويله الأساسي والمورد الأهم لسلاحه والحامي المباشر لسياساته الدموية.
ولن يصدق عاقل استطراداً أن كولن باول، الموفد الرئاسي الأميركي، ليس متواطئاً مع شارون، وأن بلاده الهائلة القوة ليست شريكة في »جرائم الحرب« التي ترتكبها إسرائيل، ضد فلسطين وشعبها ورئيسها.
أغلب الظن ان كل الدول، في الغرب والشرق، وبعيداً عن العرب والمسلمين، ستنظر بعد هذه الزيارة التفقدية الناجحة إلى الولايات المتحدة الأميركية وكأنها قيادة هذه الحملة الهمجية على شعب فلسطين، لاجتثاث روح الصمود لديه، والقضاء على إرادته المقاومة، وإطفاء آماله المشروعة بالحد الأدنى من حقوقه في أرضه، بل وبحق أطفاله ونسائه وشيوخه في الحياة، مجرد الحياة.
لا، لم يأت وزير الخارجية الأميركية الى منطقتنا في مهمة إسرائيلية، بل ان إسرائيل تخوض ضد العرب كلهم حرباً أميركية باستهدافاتها السياسية كما بتفاصيلها الميدانية، وقد جاء كولن باول في زيارة ميدانية، فاطمأن الى حسن سير العمليات، ونقل الإنذارات الى من قد تزين له نفسه تأمين دعم ولو بالغذاء أو الماء الى الفلسطينيين المحاصَرين بآلة الموت الإسرائيلية.
جاء باول الى أرض المعركة لينهي الالتباس حول طبيعتها: إنها حرب أميركية على كل العرب…
ولقد كانت مهمة باول »قذرة« بكل المعايير: فهو قد باشرها بخدع إعلامية عنوانها مطالبة اسرائيل بوقف عملياتها و»الانسحاب في اقرب وقت«، ثم التوكيد على ان »الرئيس يعني ما يقول« حين يطالب بذلك، و»الآن«، ثم الاصرار على المطلب مع اضافة »فوراً«.
وبدل ان يجيء كولن باول مباشرة الى فلسطين لكي يشرف بنفسه على وقف المذبحة، جال على بعض الدول العربية يضغط عليها لتضغط على الضحية الفلسطينية، ثم ذهب يضغط على اوروبا (ومعها روسيا والامم المتحدة) حتى لا تندفع في حملتها على حرب الابادة الاسرائيلية الى مداها الاقصى…
وحين وصل الى »الرئيس الأسير« في رام الله، بعد خمسة ايام، بينها يوم اجازة امضاه مع قيادات »جيش النخبة« على »الحدود الشمالية«، اي حدود الحرب مع لبنان وسوريا، لم يكن لديه ما يعرضه عليه سوى شروط ارييل شارون لقبول استسلامه!!
ولإتاحة مزيد من الوقت أمام الجيش الاسرائيلي لاقتحام ومن ثم تدمير المزيد من المدن الفلسطينية، وقتل اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين (والفلسطينيات) وأسر اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين (والفلسطينيات) وحشرهم في معسكرات اعتقال جماعية، فقد امتنع باول حتى عن بذل مساعيه الحميدة لرفع الحصار عن السيد المسيح.
لكن كولن باول لم يجد الوقت الكافي او انه لم يشأ ان يبذل مساعيه الحميدة للسماح بدخول فرق الانقاذ الى مخيم جنين لاخراج من تبقّى من اهله، أحياء تحت الانقاض، او للسماح بدفن الشهداء المتروكة أجداثهم في برادات المستشفيات.
… وبالطبع فهو لم يجد لا الوقت ولا الرغبة في وضع اكاليل الزهور على المقابر الجماعية التي »استُحدثت«، تحت ضغط المنع بالقوة، في الحدائق العامة لتكون اول حدائق في العالم تنبت ورودها مجلَّلة بدم الشهادة.
لقد ضُبطت الولايات المتحدة متلبسة وبالجرم المشهود: وبعد الآن سنفهم جميعاً ان ياسر عرفات »أسير حرب« بأمر عمليات اميركي، وان مقره محاصَر بدبابات اميركية تحمل شعارات اسرائيلية، وان جنين ورام الله وطولكرم وبيت لحم وقلقيلية وسائر المدن والقرى الفلسطينية انما هي محاصَرة بل ومستباحة بقرار اميركي، وان الشهداء يتساقطون بأمر قتل اميركي (آخر قافلة منهم تضم 75 شهيداً في نابلس).
والادارة الاميركية لا تداري ولا تموه ولا تخفظ كرامة »لصديق« أو »لحليف« من بين من يدّعون صداقتها من القادة العرب، ملوكا ورؤساء وأولياء عهود، بل هي اندفعت في الحرب الى مداها فأحرجتهم حتى أخرجتهم…
لم يكن أمام الرئيس المصري حسني مبارك غير خيار وحيد: أن يمتنع عن استقبال الوزير الاميركي العائد من »الميدان« بلباس قائد الهجوم على فلسطين، وبالتالي على العرب جميعا، »معتدلهم« قبل »متطرفهم«، والمتحفظ بعلاقاته مع اسرائيل، برغم حراجة اللحظة ومخاطرها العتيدة قبل المتشدد في المطالبة بقطعها فورا.
وانها لمفارقة لا سابق لها أن نسمع من وزيري الخارجية في كل من مصر والأردن، بعد لقاء شبه مفتوح مع »الجنرال« الاميركي، كلاما قاطعا برفض ادعائه العجز عن وقف النار الاسرائيلية، وبرفض المشروع الاسرائيلي للمؤتمر الاقليمي، وبرفض التصديق أنه حاول فلم ينجح في إلزام شارون بوقف حربه على الفلسطينيين، والسماح لهم بالماء والكهرباء والمعلبات والادوية وثياب الأطفال.
إنها الحرب الأميركية. ولم يكن ينقص لكي تصبح علنية غير خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش، قبيل لقائه رئيس حكومة لبنان، وعشية استقباله صاحب المبادرة (التي قبلها العرب بافتراضها مباركة أميركيا)ً ولي العهد السعودي.
لا ضرورة للتبريرات والاعتذار عن عدم القدرة على خوض هذه الحرب مع الصديق الأكبر والأقوى والأعظم والأقدر والجبار القهار… الخ
لكن الحليف الصديق لم يترك لحكام العرب الذين ظلوا على ولائهم له دائما »مخرج نجاة«: إنه يفرض عليهم أن يكونوا شركاءه في جريمته الجديدة. إنه يفرض عليهم الانتحار!
ولعل الأكثر »حرية« من بينهم هو الأسير الفعلي: ياسر عرفات. ولعله، في معتقله الآن، قد توصل الى الحقيقة القاسية؛
وهي أن »الصديق الأميركي« ليس له وجود أقله في الادارة الأميركية الحالية، وان الحرب التي تدمر فلسطين الآن هي حرب أميركية بجنرال اسرائيلي لقيادتها!
وليست مصادفة أن يكون لقب »السفاح« هو الغالب على اسم ارييل شارون!

Exit mobile version