طلال سلمان

حرب الانسحاب تحت العلم الازرق؟

يحتاج كوفي أنان إلى كثير من الصلاة قبل أن يفترض أن إسرائيل ستبيعه ما باعته إياه الإدارة الأميركية: إرجاء حرب مقرّرة مقابل قبول الطرف الآخر (العراق من قبل ولبنان الآن) بشروط العرض الذي لا يستطيع رفضه.. الاستسلام!
فمن قبل وصول هذا »الموظف الإداري الأممي الكفوء« إلى تل أبيب، محملاً بالشكوك والتحفظات والريب اللبنانية والسورية، كانت إسرائيل قد أتمّت إعادة صياغة مشروع »الانسحاب« من لبنان إلى مشروع حرب جديدة ضده.
وأنان، الذي تدرَّج في الأمم المتحدة وظيفياً منذ 1961، ولم يمارس بل ولعله لم يكن يحلم بدور »سياسي« في يوم من الأيام، يعرف جيداً أن الإسرائيليين لا يحبون المنظمة الدولية التي يشغل منصب أمينها العام، ولم يحترموا يوماً قراراتها، ولا هم نفَّذوا مرة قرارات مجلس الأمن الدولي، لأنهم كانوا يعتمدون دائماً على »فيتو« دول النخبة في وجه »جمهور الرعاع« المشكّل من دول العالم الثالث معززة في الماضي التليد بدعم الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي.. (وكانت دولته، غانا، من أولئك الرعاع)..
ولا شك أن كوفي أنان يتابع النقاش الحامي الدائر حالياً في إسرائيل حول »حرب الانسحاب« من لبنان وشروطه، ومن مدخل طريف هو تنفيذ القرار 425، الذي ظلّ منسياً ومهملاً لمدة عشرين سنة كاملة.
النقاش الآن يتركز على الانسحاب كحرب جديدة… ولذا عهد بقيادتها إلى وزير الدفاع إسحق مردخاي الذي يذهب غداً إلى واشنطن ليطالبها بالتحرّك قبل »انفجار الأزمة الجديدة«.
الشرّاح كثيرون، والأهداف محددة تماماً: تحويل الانتباه عن المذابح اليومية، سياسياً وميدانياً، ضد الفلسطينيين إلى لبنان، تفجير الانقسامات داخل لبنان، إرباك سوريا، وطمس أي حديث عن »العملية السلمية« ومؤتمر مدريد وضماناته المنسية!
بتحديد أدق، وكما نُقل عن مردخاي: تغيير الوضع الحالي عبر ممارسة ضغط دولي على كل من لبنان وسوريا.
التنازل الوحيد الذي يمكن تسجيله، مع التنويه بالمقاومة الوطنية الإسلامية باعتبارها صاحبة الفضل فيه، هو التسليم »بالأرض مقابل الأمن« مع لبنان، بدلاً من »السلام مقابل الأمن« كما تعرض إسرائيل على سائر العرب الذين ما زالوا يطالبون بشعار مؤتمر مدريد »الأرض مقابل السلام«،
على أنه مقابل هذا التنازل الاضطراري للولوج إلى التفاوض حول الانسحاب وشروطه الثقيلة، فإن إسرائيل ترفع نبرة تهديدها لتصل إلى التلويح بتدمير البنى التحتية في لبنان، وضرب سلامه الأهلي الذي تحقق على قاعدة اتفاق الطائف (لغم ميليشيا لحد وسائر المتعاونين مع الاحتلال) وتخريب علاقاته المميزة مع سوريا تمهيداً لمحاصرة سوريا واستفرادها بعد شطب لبنان المقاوم.
ومع أن وزير الدفاع الإسرائيلي يقول: لقد جرّبنا ضرب البنى التحتية في السابق، لكن تلك التجربة انتهت إلى فشل ذريع، إلا أنه يعود فيلحّ على ضرورة التوصل مع لبنان إلى اتفاق أمني موضعي وليس الى اتفاق سلام..
هذا في حين يقول وزير الاجتياح الإسرائيلي (1982) إنه قد »نشأ في لبنان الآن خط بارليف جديد«، وهو منطق يبرّر الحرب اللاحقة.
أما »وزير« شؤون الاحتلال الإسرائيلي للبنان، أوري لوبراني، فيقول إن اقتراح تنفيذ القرار 425 قد فتح كوة صغيرة نحو احتمال تسوية مع لبنان، وأظهر أن الأسوار التي أقامها السوريون واللبنانيون ليست حصينة.
هو الهجوم إذن… وهو هجوم سياسي ودبلوماسي تحت مظلة التهديد باجتياح عسكري جديد، أفظع في قوة تدميره، يعقبه انسحاب من لبنان وقد غدا ركاماً وحطاماً، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.
إن هجوم الانسحاب يبدو، من خلال التحضير الإسرائيلي له، أخطر في نتائجه المحتملة، ميدانياً وسياسياً، من اجتياح 1978 الذي أدى الى استصدار القرار الدولي 425، بل انه كما يقدمه المسؤولون الإسرائيليون أخطر حتى من اجتياح 1982،
مع ذلك فإن القيادة الإسرائيلية تقود هذا الهجوم بكفاءة، مما جعله أحد محاور الاهتمام الدولية، وانقلبت الصورة: لم يعد لبنان ضحية الاحتلال الإسرائيلي بل باتت إسرائيل ضحية رغبتها العنيفة في »سلام منفرد« مع لبنان، تظهر استعداداً للإقدام عليه إذا توفرت لها الضمانات الكافية… لسلامتها!
وبعض العالم مشغول الآن بتوفير مثل هذه الضمانات للاحتلال، ويبدو وكأنه مطالَب بفرض عقوبات على المطالِب بتحرير أرضه، سلماً وتطبيقاً لقرار دولي، والذي تقصر مقاومته عملها المسلح على مواجهة المحتل داخل أرضها، وفي قلب تحصيناته العسكرية في هذه الأرض اللبنانية المحتلة في معظم الحالات.
ونتمنى ألا ينشغل كوفي أنان كثيراً، وتحت ضغط عقدة نجاحه العراقي، أو تحت ضغط عوامل أخرى طالما عانى (وما زال يعاني منها) رجال الأمم المتحدة في مواجهة »الجبار الإسرائيلي«، بالبحث عن ضمانات للمحتل والمستمر في سياسته المعلنة بالتوسع بالقوة، كما لا بد سيشهد بأم العين في فلسطين.
وفي كل الحالات نتمنى أن يكون كوفي أنان أكثر نزاهة وأكثر دقة في قراءة قرار مجلس الأمن الدولي 425 وفي تفسيره من سلفه الأسبق ديكويار،
… نتمنى ألا تخوض إسرائيل حربها الجديدة ضد لبنان تحت العلم الأزرق للأمم المتحدة، هذه المرة!

Exit mobile version