طلال سلمان

حرب اسرائيلية توحد لبنان و<مواطنيه>

بمثل السحر استعاد لبنان وحدته، جنوباً وشمالاً، سهلاً وجبلاً، واستعاد اللبنانيون مشاعرهم الأصيلة بأنهم أخوة أشقاء تجمعهم وحدة المصير، وتحققوا مرة أخرى، بقوة الدم الذي يزيد من صلابة الارتباط بالأرض ويحميها، ان إسرائيل هي العدو ، عدوهم جميعاً بلا تمييز ولا تفريق ولا استثناء.
عاد اللبنانيون شعباً لا مجموعات متنافرة أو متنافسة أو متخاصمة تخاف كل منها من الأخرى، فإذا الكل أسرى الخوف من بعضهم بعضاً بما انساهم أو كاد ينسيهم مصدر الخطر الأوحد على وجودهم كشعب ودولة: إسرائيل.
في اليوم الأول كان صوت النقاش هو الأعلى: هل عملية خطف الجنديين الإسرائيليين خطيئة أو خطأ سياسي فادح؟ هل كان التوقيت مدروساً، وهل كان رد الفعل الإسرائيلي متوقعاً أم لا؟ وان كان متوقعاً وبهذا الحجم، وبهذا العنف، وبهذه الطاقة التدميرية الهائلة، فلماذا كانت العملية؟! وهل يعادل اطلاق ثلاثة أو أربعة أو حتى مئة من الأسرى اللبنانيين لدى العدو ان ندفع مثل هذا الثمن الباهظ من هناءة عيشنا معززة بالصيف الذهبي الموعود؟!
في اليوم الثالث ومع انفتاح الجحيم الإسرائيلي وتوالي الغارات التي لا تحصر أهدافها في مقرات قيادة حزب الله أو مواقعه العسكرية في الجنوب، بل هي تنطلق بأوامر عمليات محددة: تهديم الجنوب جميعاً والضاحية الجنوبية لبيروت على رؤوس أهاليها، وما يمكن اعتباره قواعد خلفية، وخطوط الامداد، ثم توسع أكثر ليشمل كل ما يتحرك ومن يتحرك على طرقات الجنوب والبقاع والشمال والجبل… وبعد ذلك باشر العدو تدمير البنية التحتية جميعاً: المطار والمرافئ والجسور وحيثما وجدت أجهزة رادار، سواء أكانت لارشاد السفن أو الطائرات كما المنارة أو مراصد لاستكشاف أحوال الطقس. لكن ذلك لم يشف الغليل فباشر العدو دك بعض ثكنات الجيش وبعض مواقعه البعيدة جداً عن الجنوب. بعدها جاء دور الهوائيات لتعطيل البث الإذاعي والتلفزيوني، ووقعت مطاردات لا يمكن تخيلها لسيارات نقل الخضار والحفارات وسيارات الركاب بطائرات الاف 16!
إذاً، هي حرب على لبنان كله، دولة وشعباً وأسباب حياة، وليست حكاية الأسيرين إلا الذريعة… ولأنها حرب فقرارها لا بد سابق على خطف الجنديين، وهي عملية سارت على منوال عمليات أسر عديدة أخرى وكانت تنتهي جميعاً بوساطات دولية ومفاوضات غير مباشرة تنتهي بالتبادل السلمي ودونما الحاجة إلى اطلاق رصاصة واحدة..
هي الحرب إذاً، فليُرجَأ النقاش المفتوح دائماً، في لبنان، ولنواجه متحدين..
وهكذا، وكما بسحر ساحر، تحرر اللبنانيون الذين عادوا الآن مواطنين مهددين في يومهم وفي غدهم، بل في وطنهم ذاته، من خلافاتهم السياسية التي كانت تقربهم من حافة الخصومة… بل هي قد انذرت، في زمن غير بعيد، بسبب من تراث الحروب الأهلية التي كثيراً ما فجرتها المصالح الأجنبية بين الطوائف والمذاهب المختلفة، بتدمير وشائج الأخوة وكادت رياح الفتنة تعمي البصيرة والبصر عن وحدة المصير.
في أي بئر عميقة رمى المواطنون الذين كانوا حتى الأمس القريب على شفا القطيعة، احقادهم وعصبياتهم الضيقة، وعادوا إلى الحقيقة التي لا يمكن طمسها أو تشويهها أو تزويرها: ان إسرائيل عدو الجميع، لا تفحص هوية ضحاياها، فمن والاها قتلته بعمالته، ومن واجهها قاتلته بمقومات صموده وأولها وأخطرها ارتباطه بأرضه واستعداده لأن يفتديها بدمه!
هي الحرب، إذاً، فإلى جهنم الخلافات والمماحكات والمناقشات المتلفزة حول ما إذا كانت المقاومة شرعية ولحماية الوطن أم انها جلابة المخاطر.
هي الحرب، إذاً… وهكذا فتح اللبنانيون قلوبهم قبل بيوتهم ليستضيفوا أخوتهم الذين أجبرهم الموت الإسرائيلي على ترك ديارهم التي بنوها ألف مرة وصمدوا فيها دائماً، وسيعودون إليها فيصمدون فيها عنواناً للتحدي والإباء والتمسك بأرض الآباء والأجداد وشرف الانتماء إليها.
لا الذين استقبلوا النازحين موقتاً يمنون على أخوتهم الآتين وعيونهم تطفح بالعزة والكرامة، فهم ليسوا جبناء هاربين من المواجهة، ولكنهم باتوا في العراء بعدما دمر العدو بيوتهم ولم يوفر مساجدهم وكنائسهم والمدارس، وقطع عنهم الماء والكهرباء والغذاء والدواء، كما سد الطرقات بالجسور المهدمة،
… ولا هؤلاء الآتون وقد خلفوا ابناءهم يقاتلون العدو ويلحقون به الهزيمة في كل قرية يحاول دخولها يتصرفون بانكسار المهزق..
تصرف اللبنانيون كأخوة في مختلف المناطق، أُولاها صيدا التي علمت الشعوب الصمود مع فجر التاريخ المكتوب حين احرقت نفسها ولم تستسلم، ثم جزين وجوارها وصولاً إلى الشوف جرداً وساحلاً واقليم الخروب الذي سبق لأبنائه ان قاتلوا هذا العدو حتى آخر طلقة، والمتنين شمالاً وجنوباً، وكسروان والفتوح، وبلاد جبيل وطرابلس الفيحاء وزغرتا والضنية والمنية امتداداً إلى عكار…
أما بيروت الأميرة التي احترقت ولم ترفع الاعلام البيضاء للعدو
الإسرائيلي فقد تصرفت كعادتها: فتحت قلبها وبيوتها لهؤلاء الأخوة الذين ما هربوا ولا جاءوا طامعين بسكن المدينة، لكنهم إنما يجيئون إلى أهلهم استنقاذاً لأطفالهم الذين سيصيرون بدورهم الغد لها.
لقد توحد اللبنانيون في مواجهة الحرب الإسرائيلية: هي حرب عليهم جميعاً وليس على أخوتهم في الجنوب والضاحية والبقاع فحسب. انها حرب تهدف إلى تدمير لبنان كله، وليس إلى القضاء على حزب الله الذي ما زال في اليوم السابع عشر يقاتل ببسالة وبكفاءة وبالعلم فيمنع العدو عن أرضه، بل انه يقاتله في الأرض الفلسطينية المحتلة ويوقع به من الخسائر ما لم تتكبدها هذه الدولة التي زرعت بالقوة وتعيش بالقوة على أرض ليست لها، بل لشعب فلسطين الذي لا تزال تطارده بالقتل اليومي منذ ثمانية وخمسين عاماً أو يزيد.
توحد لبنان، وأعاد اللبنانيون اكتشاف البديهة التي كادت تضيعهم عنها المناورات والتكتكات السياسية: هم شعب واحد، ومصيرهم واحد، يعيشون معاً أو تندثر دولتهم ويتوزعون أيدي سبأ.
تحية لهذا الشعب العظيم، الذي تطهره النار الإسرائيلية، فيستعيد وعيه بوحدته.

Exit mobile version