طلال سلمان

حرب احتلال ثانية

أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش حربه الثانية على العراق: حرب تثبيت الاحتلال وإدامته بقوة السلاح، معززاً بأصناف التعذيب الجسدي والتحقير المعنوي للعراقيين وامتهان كرامتهم الإنسانية.
وإذا كان قد أمكن تسويق الحرب الأولى، قبل أربعة عشر شهراً، بأنها موجهة ضد نظام صدام حسين وأسلحة الدمار الشامل التي لا يمتلكها، والتي ثبت كذب الادعاءات حولها، فإن الحرب الثانية لها هدف مباشر ومعلن: إلحاق الدمار الشامل بأية بشائر أو بوادر بنشوء مقاومة عراقية للاحتلال، حتى لو اقتضى الأمر تحويل العراق كله إلى »سجن أبو غريب«، وإخضاع العراقيين جميعاً لعمليات تعذيب وحشية وتحقير فظ لإنسانيتهم كالتي تنشر صورها أجهزة الإعلام الأميركية وتتكامل كمسلسل رعب يروّج »للديموقراطية من الخلف« من غير أن يوفر الجنس في حملته التي حظيت بنجاح غير مسبوق.
ومن أجل تسويق هذه المهمة النبيلة لجيش الاحتلال، فضلاً عن تبريرها، فلا بد من تصوير العراقيين سواء في الفلوجة والرمادي أم في النجف وكربلاء والديوانية والكوفة أم حتى في بغداد نفسها وكأنهم »مجموعات« من القتلة والمجرمين والإرهابيين تعززهم طوابير من المقاتلين الأجانب، كما وصفهم القديس جورج بوش… وبالتالي فإن الحرب الثانية لا بد من أن تتواصل استكمالاً للهدف الإنساني المقدس لجيش الاحتلال الأميركي.
وبالتأكيد فإن أمن جيش الاحتلال، بأهدافه النبيلة، يتقدم على حياة العراقيين، وحتى على وحدة العراق وكيانه السياسي..
وكي يكون لجيش الاحتلال مبرر وجود، بعد سقوط صدام وانكشاف كذبة أسلحة الدمار الشامل، فلا بد من تفكيك شعب العراق والتعامل معه بعناصره المكونة، ليمكنه الادعاء من بعد أنه إنما يحمي الكرد من العرب، والعرب من التركمان، والصابئة من الأشوريين، فضلاً عن حماية »الأقلية« السنية من »الأكثرية« الشيعية.
ثم لا بد من حماية »السنة« من الإرهابيين المحتشدين في الفلوجة.
ولا بد من حماية »الشيعة« من »عصابات« مقتدى الصدر التي تقتحم بل وتدنس العتبات المقدسة في دار السلام والنجف الأشرف…
ثم إنه لا بد من أن يكون جيش الاحتلال مهاباً.. وكي يكون مهاباً فلا بد من أحد أمرين: إما قتل العراقيين بصواريخ الطائرات وقذائف الدبابات، وإما تدمير معنوياتهم بإذلالهم وتحقيرهم وامتهان كرامتهم الإنسانية… ولا بد، إذاً، من تعميم صور »العصاة« في عريهم وهم يرتعدون خوفاً أمام الكلاب المفترسة، كما يرتعدون قرفاً أمام الجنود الشاذين جنسياً، أو يتعرقون خجلاً أمام المجندات الساديات واللواتي يؤكدن أن الديموقراطية الأميركية لا تمييز فيها حقيقة في الجنس أو اللون أو الموقع ولا طبقية ولا تمييز عنصرياً!
لا بد من أن يصير المقاومون في العراق عبرة لمن يعتبر،
ولا بد من شن حرب وقائية على المواطن العراقي الذي قد يفكر بالمقاومة، وذلك بجعله يرى بعينيه ما أصاب السابقين.
»وإذا كان جنودنا في خطر فإن الديموقراطية في خطر، ولا بد من تأمين سلامة جنودنا، ولن يأمن جنودنا إلا إذا أذل العراقيون العرب المسلمون وإلا إذا امتهنوا في شرفهم الوطني كما في رجولتهم.
»لكي يأمن جنودنا فلا بد من بث الرعب في أوساط العراقيين، لا بد من تهديدهم بما هو في عرفهم أسوأ من الموت.. وامتهان الكرامة، وإيذاء الإنسان في شرفه، أبشع من الموت«.
تحتاج الديموقراطية إلى كثير من التنازلات!
وفق هذه المعايير فمن الطبيعي أن يعتبر جورج بوش وزير دفاعه رامسفيلد بطلاً وطنياً… ولا بد من أن يتوجه بالتهنئة إلى جنرالاته الذين يدمرون المدن في العراق، وإلى الجلاوزة الذين يدمرون الكرامة الإنسانية في العراقيين والعراقيات…
الديموقراطية المستوردة غالية الثمن.
… ثم إنها لا تقر المقولة المتخلفة عن »العورة«، والتمييز بين عورة رجالية وعورة نسائية. فالبشر كلهم سواء.
إن كل من يفكّر بالمقاومة لتحرير العراق من الاحتلال »إرهابي« وبالتالي فهو عدو للولايات المتحدة الأميركية، أي للديموقراطية.. هذه هي المعادلة ببساطة. وطوني بلير يعتمدها في حكومته البريطانية أيضاً.
والديموقراطية تحرّض على كشف العورات..
كذلك فإن الديموقراطية تتطلب حماية دائمة، ولا بأس من أن تشارك في حمايتها الطائرات بصواريخ القتل ودبابات المارينز بمدافع التهديم والكلاب المجوعة تطلق على المساجين المكبلين بالقيود والمربوطين بحبال إلى الأعمدة وهم عرايا..
* * *
لقد دافع رامسفيلد عن ممارسات ضباطه وجنوده، وتحمّل المسؤولية عن ارتكاباتهم التي تعزز، وتؤكد طبيعة المهمة النبيلة لجيش الاحتلال الأميركي في العراق وهي نشر الديموقراطية… وهي أنواع وأصناف منها ما يؤخذ عن طريق الفم، ومنها ما يؤخذ مذاباً في الماء ومنها ما يؤخذ »كتحاميل«… ودائماً بحراسة الطائرات والحوامات والدبابات والمارينز والخيالة.
وبديهي أن يدافع تشيني عن رامسفيلد وأن يصفه بأنه أعظم وزير دفاع في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
وطبيعي أن يدافع بوش، ومعه »لسانه« رايس عن البنتاغون الذي تخصص الآن في نشر الديموقراطية بحاملات الطائرات، أو بالطائرات ذاتها على طريقة رش المبيدات لقتل الحشرات المؤذية للبيئة!
فمن يجرؤ، بعد هذا كله، على انتقاد المهمة النبيلة للإدارة الأميركية في تحرير العراق… ومعها تحرير العراقيين من عقدهم الجنسية. فمع الديموقراطية لا كبت ولا تزمت بل حرية مطلقة بعض مظاهرها زواج المثليين!
وغداً ستنعقد القمة العربية تحت شعارات الإصلاح والديموقراطية فماذا تراها ستقول والديموقراطية الأميركية هي التي أتاحت للقمة أن تعرف ببعض يوميات الاحتلال الأميركي للعراق.
لكنها ديموقراطية عنصرية هذه التي تعري العراقي من إنسانيته بعدما أخذت منه وطنه بقوة السلاح، كوريثة للطغيان الذي أذله فهيأ للاحتلال ومكّن له.
إصلاح من فوق وديموقراطية من تحت… وعلى أرض السلام السلام.

Exit mobile version