طلال سلمان

حديث ماضي عن مستقبل لبنان وثورة جمال عبد ناصر

تطل ذكرى ثورة 23 يوليو (تموز) من قلب ضباب الأحزان ومرارة الخيبات، فيهرب منها أهلها حتى لا تكون محاسبة بالماضي للحاضر، ولا يكون سؤال عن المستقبل..
لا وقت للحاضر عند اللبنانيين. لا وقت للمستقبل عند الفلسطينيين. لا وقت للحياة عند العراقيين. لا وقت للتفكير بما يتجاوز الرغيف عند المصريين. لا وقت للماضي عند العرب قاطبة الذين كادوا، في لحظة تاريخية نادرة، قبل نصف قرن أو أكثر قليلاً، يصدقون أنهم أمة واحدة، بمصيرها على الأقل… ثم إنهم انتبهوا أو إنهم نُبِّهوا فإذا هم أمم شتى!. بل لقد بلغ الأمر أنهم صدقوا أن كل دولة من دولهم ، ومهما كانت ضئيلة المساحة، ومحدودة بعدد سكانها، إنما هي نقطة تلاقٍ بالمصادفة بين مجموعة من الشعوب القبائل، الأديان، الطوائف، المذاهب، العناصر، الأعراق وأن الافتراق بإحسان أو الانفصال بالحرب قدر مكتوب لا مفر منه، لأن القرار ليس بأيديهم..
وإلا فكيف يمكن أن نفسر أننا وخلال أقل من عام قد حوّلنا الحرب الإسرائيلية على لبنان إلى تحرش استفزازي من بعض المغامرين أو المتطرفين أو المرتبطين باستراتيجيات خارجية كان لا بد أن ترد عليه إسرائيل بالدفاع عن نفسها والتدمير المدروس بدقة للمناطق التي أنبتت هؤلاء، وإنهاكهم، إن لم يكن القضاء عليهم جميعاً، لتمكين المعتدلين من أن يحكموا في لبنان الآمن عندها في ظل السلام الإسرائيلي المعزز أميركياً؟!
لقد فَقَدَ اللبنانيون الذين كانوا، في العادة، شديدي الثقة بقدراتهم، إيمانهم بوحدتهم، فتفرقوا وتخاصموا واحتربوا أو كادوا بينما صواريخ طائرات العدو الإسرائيلي وقنابل مدافعه ودباباته تحرق بعض جهات بلدهم الجميل، وتقيم فواصل ملغمة بين أهله، فإذا هم يتباعدون ويتخذون من هذه الفواصل بالنار الإسرائيلية حدوداً طائفية تلغي الوطن، وتُعلي الطائفية فوق السياسة، وتنسيهم أن بلدهم أصغر من أن يقسّم، وأن السلطة فيه أضعف من أن تحميه بخلاف منطق التاريخ والجغرافيا مهما بلغ حجم الدعم الخارجي لنزعة التفرد ولو بالهيمنة أو بالتقسيم.
وهكذا فإن اللبنانيين اليوم مجموعات متصارعة، بأسلحة الدنيا والدين، على سلطة ليست في أيديهم فعلاً… وهو صراع يمتد إلى الغد فيغطيه بالضباب.
ولعل بعضهم يبذل من المجهود لكسب معركة انتخابية فرعية فرضتها جريمة اغتيال بعض النواب أكثر مما بذل في مواجهة الحرب الإسرائيلية.
ولعل بعضهم الآخر يهتم بضمان الشروط (الخارجية طبعاً) لكسب معركة رئاسة الجمهورية أكثر من اهتمامه بضمان أو بتدعيم وحدة البلد ودولته المهددة بالانهيار والتآكل تحت ضغط عجز قواها السياسية عن حماية مؤسساتها الدستورية ودورة حياتها اليومية، باقتصادها وأمنها الاجتماعي، واستطراداً العسكري.
أما في فلسطين تحت الاحتلال فإن الصراع على سلطة ليس لها من السلطة إلا الشكل قد أضاع حلم التحرير وحلم الدولة المستقلة وحتى حلم السلطة الوطنية كخطوة على الطريق إلى الاستقلال ، كما تمّ تبرير التنازلات في اتفاق أوسلو.
وأما في العراق تحت الاحتلال فيجري بعد تدمير الكيان السياسي تدمير وحدة الشعب وإغراق أطيافه جميعاً في حمأة الفتنة والاقتتال الأهلي الشامل، ونهب ثرواته في الحال والاستقبال بتشريع يصدره المجلس النيابي فوراً، إذ لا يجوز أن يذهب النواب إلى المصايف بينما جنود الاحتلال الأميركي يتساقطون قتلى برصاص الإرهابيين أو بالحر العراقي الفظيع ، كما قالت البيانات الرسمية الأميركية. فليقننوا منح النفط للاحتلال وبعد ذلك لهم أن يرتاحوا.. إلى أبد الآبدين!
على العراقيين أن يقتتلوا ويمزقوا وحدتهم وكيانهم السياسي، وأن يغرقوا في دمائهم، وأن يمدوا عدوى اقتتالهم الذي يعطيه الاحتلال مضموناً طائفياً مذهبياً وعرقياً ليصلح كقاعدة لحرب لا تنتهي بين السنة والشيعة العرب، ثم بين العرب والإيرانيين، وكلُّ حرب تتغذى بالأخرى.
… والقمة العربية لم تجد وقتاً كافياً للعراق، ولا هي وجدت لزاماً عليها أن تخص لبنان والحرب الإسرائيلية عليه بكلمة، لأنها كرّست الوقت والجهد والشفاعات لكي يقبل الإسرائيليون مبادرتها السلمية بينما هم ما زالوا في ثياب حربهم على لبنان وعلى الفلسطينيين، قبل أن تريحهم انقسامات هؤلاء وأولئك والتدخل الدولي الحاسم لنقل الحروب إلى الداخل هنا وهناك.
[ [ [
لعل الخوف من الحاضر على المستقبل يعيد الاعتبار إلى تجربة عربية رائدة للتغيير، في ماض ليس بعيداً، اجتمعت عليها كل قوى الدنيا، وأعاقها النقص فيها الذي أنبت الفساد في داخلها ورعاه ونماه حتى انتهى بها إلى نقيض ما قامت من أجله.
صرنا نخاف من استذكار ثورة 23 يوليو (تموز) ,1952 وبطلها جمال عبد الناصر… وهي الحركة التي بدأت انقلاباً عسكرياً ثم تحولت إلى أوسع عملية تغيير جدي وشامل في الأرض العربية مشرقاً ومغرباً..
صار إحياء الذكرى أشبه بإعلان انتساب إلى الماضي وخروج من الحاضر ومجافاة للمستقبل، بمعزل عما إذا كان الاستذكار يهدف إلى مراجعة التجربة الهائلة الغنى، والإفادة من دروسها أو تصنيمها كالعجل المقدس..
ولم تكن مصادفة أن تُرفع، في مثل هذه الأيام من العام الماضي، صورة السيد حسن نصر الله جنباً إلى جنب مع صورة القائد الراحل جمال عبد الناصر في الأزهر الشريف، بينما مجاهدو المقاومة يتصدون بكفاءة لم نعرف لها مثيلاً لآلة الحرب الإسرائيلية، الهائلة المعززة بالتأييد الأميركي (والعربي، وأكثر من الغربي) فتفشل خططها وتمنح العرب فرصة نادرة لاستعادة الثقة بالنفس وبقدرتهم… لو أنهم أرادوا.
ولأن لبنان قد شهد عصره الذهبي، في وحدته الداخلية، وفي استقراره وازدهاره الاقتصادي، في حمى تلك التجربة الثورية العظيمة، التي جمعت مصر وسوريا تحت قيادة جمال عبد الناصر في دولة الوحدة، فإن استذكارها قد يغني أي بحث عن الطريق إلى الأمان بالوحدة الوطنية، وبالدولة الضامنة حقوق مواطنيها… وبين تلك الضمانات هوية البلاد واستقرارها المعزز بالرعاية العربية التي تحد من التدخل الأجنبي فيه، وهو التدخل المانع للاستقلال والحرية والازدهار، وللوحدة الوطنية بطبيعة الحال.

Exit mobile version