طلال سلمان

حتى يثمر حوار حول شان اجتماعي

رُفعت الجلسة، وانفض »المولد«، وعاد العسكر الى ثكناته، لكن الازمة باقية مشرعة الابواب على كل ريح، في الشارع الذي أفرغه الخوف والعجز عن مواجهة الحقيقة بشجاعة صاحب الرؤية وليس بالقرار القمعي لصاحب السلطان!
لم تكن التظاهرة هي »القضية« ولا كان الاضراب،
واذا كان قصر النظر او ضيق الصدر او المبالغة في تقدير القوة هو الذي حول المطالب البسيطة لمن لا تكفي دخولهم لاعالتهم، الى »مبارزة« بين الحكومة والاتحاد العمالي العام، فان تلك »المبارزة« لم تنته بالتعادل، كما اراد البعض ان يرى، بل هي كشفت الحجم الفعلي للازمة فاذا هي اكبر من الطرفين معù.
هل يحتسب في باب المديح ان يقال لرفيق الحريري، الاسطورة قبل ثلاث سنوات، انه قد تعادل في المبارزة التي لم تكن ضرورية، مع الياس ابي رزق والاتحاد العمالي العام؟!
واذا كان لا بد من تحديد رابح فهو، قطعù، الاتحاد وليس الحكومة، اذ فرض القضية التي حمل لواءها (مضطرù، ربما لغياب الآخرين؟!) على جدول اعمال الحكم، بمؤسساته كافة، وأحلها في موقعها الصحيح على رأس قائمة الاولويات، خلافù للمزاج الحكومي السائد.
ومع ان الرئيس الحريري قد اعترف، ولاول مرة بهذه الصراحة، بخطورة الشأن الاجتماعي الذي لم ينل دائمù حقه من الاهتمام، الا انه لم يتقدم بأي اقتراح يمكن اعتماده اساسù للحل، مما ابقى سقف الحوار العتيد مع الاتحاد واطئù بحيث يتعذر ان يتوفر تحته الحل المنشود.
والاعتراف اول خطوة، والحوار هو الطريق الوحيد، لكن الحكومة هي المطالبة ببلورة مشروع حل، خصوصù وأن قراراتها ومجمل سياساتها وإجراءاتها هي التي فاقمت المعضلة الاقتصادية الاجتماعية الموروثة، والتي يتعذر حلها من دون خطة.
لا عجائب في الاقتصاد،
ولا حل وحيد الجانب، وفوري يتم بكبسة زر للشأن الاجتماعي،
ولو ان خطة النهوض الاقتصادي التي يتباهى بها الرئيس الحريري كانت ناجحة حقù لما كانت المسألة الاقتصادية الاجتماعية قد تفاقمت بحيث باتت معضلة وهي مرشحة لان تصير مأزقù للحكم كله.
لقد مضى يوم »الاربعاء الحربجي« على خير،
لكن الاسئلة التي خلفتها المواجهات في الشارع، ما زالت في الشارع تنتظر اجوبة مقبولة،
ولا علاقة لهذا بمدى شعبية او تمثيلية او القوة الشعبية للاتحاد العمالي العام… فليست هذه المؤسسة مؤهلة، ولا هي ادعت انها القيادة السياسية للبلاد، او انها »البديل« من حكمه القائم، او انها تملك او تقدر على اعداد برنامج للإنقاذ.
الازمة بأسئلتها الموجعة ما تزال في الشارع، وهي ان بقيت فيه ستحركه مرة ثانية وثالثة ورابعة، اذ عندما يفتقد الجواب لدى مؤسسات الحكم لا يتبقى غير الشارع، اي غير التظاهر والاضراب وربما الاعتصام وما الى ذلك من وسائل الاعتراض الديموقراطي سلاحù لمن لا تجد مطالبهم أذنù صاغية وعقلا مفتوحù ورغبة جدية في توطيد اركان السلم الاهلي.
مع التنويه بان المؤسسات النقابية، والاتحاد العمالي العام على رأسها، هي بعض اهم اركان السلم الاهلي، بطبيعة تكوينها ومصالحها الحيوية.
* * *
يخطئ الرئيس الحريري اذا ما تصرف وكأنه خرج منتصرù من مواجهة الاربعاء، او انه قد تخطى المأزق،
ويخطئ اكثر اذا ما اعتمد »الروايات الرسمية« عن المدسوسين والمشبوهين والمتآمرين الذين متى تسملوا »الفاكسات« العرفاتية يستطيعون دفع صغار الكسبة من موظفين وعمال وفلاحين وصيادين وأصحاب حرف الى الشارع لكي يتظاهروا ضد حكومتهم.
ويخطئ اكثر واكثر اذا ظل يعتمد منطقه الاقتصادي البحت الذي يهون من شأن الهدر، ويكاد يطمس حقيقة ان بعض المنتفعين بالنهوض الاقتصادي وبمشاريع اعادة الاعمار، والمتاجرين بأقوات الناس والمواد الحيوية كالنفط، يحققون ارباحù خرافية لا يدفعون عنها اية ضرائب، في حين يجبى من فقراء الناس ما لا طاقة لهم على دفعه.
واذا كان سهلاً على الرئيس الحريري وعلى اهل الحكم عمومù الطعن في ما يدعيه وما يطلقه »المعارضون« من اتهامات تمسه وحكومته، فلا أقل من ان يأخذ بالاعتبار ما قاله »مجلس المديرين العامين«، الذي يمثل قمة الادارة الحكومية، حول الهدر والانفاق المشكوك في جدواه.
يقول »مجلس المديرين العامين« في بيانه الصادر عن اجتماعه الاخير، يوم الثلاثاء الماضي، ما حرفيته:
»6 ان المجلس يؤكد انه اذا تحملنا جميعù مسؤولياتنا انطلاقù من مهامنا كمديرين عامين الى كافة المسؤولين على اي صعيد كان، فان كلفة اي زيادة تطرأ على الرواتب يمكن تحقيقها من ضبط الهدر وترشيد الانفاق في مجالات عدة وأبرزها على سبيل المثال وليس الحصر:
»… وقف التوظيف المبني على اعتبارات الشفقة والرحمة والعمل الخيري،
»… وإلغاء بضعة آلاف وظيفة شاغرة،
»… وترشيد الانفاق في مجالات الصحة،
»… وضبط مداخيل صناديق المدارس الرسمية، والانفاق على المدارس المجانية الخاصة، والمفروشات واللوازم،
»… وتوزيع فائض الاجراء على المدارس والبلديات مع ما يحققه ذلك من وفر ملحوظ لا سيما على صعيد الاشتراكات التي تدفع عنهم للضمان الاجتماعي،
»… ووقف التعاقد العشوائي البالغة كلفته عشرات المليارات،
»… وتفعيل المكتب الوطني للدواء والضمان الاجتماعي لجهة استيراد الادوية وبيعها من العموم،
»… ووضع حد لتفتيت الجامعة اللبنانية على الشكل الحاصل حاليù، هذا التفتت الذي ادى إلى تحميلها مخصصات اكثر من خمسة آلاف عنصر فيها،
»… ووضع حد اقصى للتعويضات لا يجوز تجاوزه لأي كان في اي موقع كان،
»… وتقرير مصير اهم قطاعات الانتاج والاستثمار، ولا سيما تلك التي انتهت امتيازاتها كمرفأ بيروت وسائر المرافئ اللبنانية وادارة الريجي والكازينو وتحديث طرق ادارة مصافي النفط وغيرها…«
ومع انه كلام »موظفين« الا انه يرسم اطارù لخطة علاج للشأن الاجتماعي،
هذا مع الاشارة الى ان »المديرين العامين« لم يتعرضوا لما يحدث خارج نطاق اختصاصهم، ولم يشيروا ما يجني المحظوظون من ارباح خرافية جعلتهم يجيئون الى »اغلى بلد في العالم« ويتحملون مع اهله الحر والرطوبة وفساد البيئة!
* * *
الازمة ما تزال في الشارع،
وهي قد تقطع الطريق على مشاريع سياسية واحلام وطموحات، كما قد تسقط اوهامù وتخيلات،
فالرقم هو الرقم، ولن يستطيع اي انسان ان يقنعك بالرقم!! ان راتبك الهزيل يوفر لك العيش الكريم بينما انت لا تكاد تصل الى الكفاف.
ولا يستوي بناء مدينة او مدن او احياء هي غاية في الفخامة وارتفاع الاسعار، والايحاء بأن البلد غني، بينما شعبه مجاميع من الفقراء او اشباه الفقراء، وغالبيتهم لا تجد سكنا لائقù،
والغنى مستفز، وهو قد يذهب بالحكمة،
والفقر قد يذهب بالعقل فتتحول النقمة الى ثورة،
والاهتمام بالبشر يجب في كل الحالات ان يسبق الاهتمام بالحجر، والا طحن البشر الحجر، كما رأينا هنا وفي أمكنة اخرى،
وليس صحيحù ان كل الطرق تؤدي الى الشيوعية، كما ليس صحيحù ان كل من ينبه الى الخطأ او الى القصور ويطالب برؤية اشمل هو »مندس« و»مشبوه« و»خطر على الأمن القومي«!

Exit mobile version