طلال سلمان

حتى لا يغتال »القادة« فلسطين

منذ عقود والشعب الفلسطيني يعيش في قلب الخطر حتى ألفه وآخاه وبات بين مكوّنات حياته. وليس مبالغة أن يقال إن هذا الشعب العظيم لم يعد يعرف طعم الحياة الطبيعية، حيث يعيش الناس في بيوتهم آمنين، ينجبون للغد أبناءه، ويبذلون جهدهم في تطوير بلادهم وتقدمها فيعوّضون ما فاتهم خلال دهور القهر والاستعمار والإذلال بأشكاله التي تحتل محاولات الإبادة الإسرائيلية ذروتها.
كان الخيار المفروض على هذا الشعب محدداً: أن يمضي أيامه في ذل يذهب بكرامته وبحقوقه في أرضه وفي إقامة دولته فوق نصفها أو أقل، أو أن يواصل نضاله لاستخلاص الحد الأدنى من تلك الحقوق ممثلاً بحلم دولة ستكون عند ولادتها ضعيفة ومحاصرة من جهاتها الست (إذا ما استذكرنا البحر والجو)، وفقيرة ومفقرة بقرار إسرائيلي معلن.
مضت السنون ولم تأته النجدة التي تساعده على استخلاص الحد الأدنى من حقوقه… لا إخوانه العرب رغبوا أو قدروا ولا القوى العظمى المتحكمة بمصائر الشعوب واجهت نزعة الاستئصال التي تحكم السلوك العنصري الإسرائيلي ازاء الشعب الفلسطيني، خصوصاً أنه لا يجد قوة تردعه أو تحد من طغيانه وتمنع اغتياله فلسطين، أرضاً وشعباً وحقوقاً يؤكدها التاريخ والجغرافيا التي باتت مخضبة بدماء قوافل الشهداء.
هذه ذروة جديدة للخطر الذي بات مسكناً لشعب فلسطين: يعيش فيه ولا يخرج منه إلا إلى الشهادة أو الرحيل مع أحلامه إلى البعيد، من دون أن تغادر روحه أرض الزيتون والأنبياء والأطفال الذين يولدون رجالاً والذين ينفذ فيهم جند العنصرية والاحتلال أحكام الإعدام وهم يرتجفون خوفاً من احتمال أن يكبروا في أرضهم وبأرضهم فيخرجوهم منها ولو بعد ألف عام.
ها هو ذا الشعب العظيم الذي احترف الخطر حتى لم يعد يخافه يواجه لحظة مصيرية عنوانها غياب القائد الذي اختصر المؤسسات جميعاً والمنظمات جميعاً والشعب جميعاً في شخصه.
إن هذه اللحظة قد تختزل حاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله، إذا لم يتم التعامل معها بحس عميق بالمسؤولية عن المصير.
إن الخلاف أو الاختلاف، بدواع عقائدية أو سياسية أو شخصية، فضلاً عن سائر وجوه السلطة والنفوذ (والثروة؟!) يعادل الخيانة، بل هو أمرّ وأدهى.
في ماضي الأيام كان القادة وأصحاب الرأي يعتبرون اختلاف الرأي عامل تعزيز للنضال الفلسطيني، يؤكد فيه الروح الديموقراطية، وتسليم الكل بالكل على قاعدة أن فلسطين بحاجة إلى الجميع، وأن الجميع يعمل لفلسطين، وأن ميدان التحرير فسيح وصعب ومعقد يتسع للجميع بل هو يستدعي الجميع إلى قاعدة صلبة من الوحدة الوطنية الرحبة، فكراً وممارسة، من أجل تحويل الحلم إلى حقيقة في ظروف تصل في صعوبتها إلى حدود الاستحالة.
أما اليوم فإن الاختلاف، خصوصاً وقد تبدّى في بعض »المشاهد الباريسية« مبتذلاً ومهيناً لكرامة الشعب الفلسطيني، شهداء وأحياءً، فإنه سينزل بالقضية من عليائها إلى مستنقع الصراع على سلطة مفرغة من أي مضمون، وستكون رهينة للعدو الإسرائيلي وعامل تفجير للوحدة الوطنية ولحلم التحرير، بل حتى لإمكانات استمرار الفلسطينيين أحياءً في ما تبقى من أرضهم لهم.
إن الخلاف ينهي فلسطين أرضاً وشعباً وقضية.
ستتحول الضفة، والعياذ بالله، إلى مدن دول، وسناجق وبلديات منفصلة بعضها عن بعض، وقرى وعشائر وقبائل متناحرة متخاصمة تقدم عصبيتها على وطنيتها، وتقدم مصلحتها المباشرة، ولو في ظل الاحتلال وتحت رعايته، على حقوق الشعب كله في أرضه، أو بعضها، وفي دولة ما على ما قد تتخلى عنه إسرائيل مضطرة، وتحت ضغط مقاومته التي تستدرج الضغط الدولي.
أما غزة فلسوف تذهب إلى الغرق في دماء أبنائها.
إن كل نفس ذائقة الموت، بمن في ذلك القادة والأبطال التاريخيون.
ورحيل ياسر عرفات فاجعة،
لكن الخلاف إذا ما شجر والعياذ بالله لن يعني أقل من اغتيال فلسطين وبأيد فلسطينية.
وهكذا تتحول المأساة إلى اغتيال لشعب هو بين الأعظم في شعوب العالم.
وبديهي أن شعب فلسطين لا يستحق مثل هذا المصير.
والكل مسؤول… والقيادات، بمعزل عن ظروف اختيارها، أمام امتحان قد ينقلها من خانة المجاهدين إلى خانة الملعونين في الدنيا والآخرة.
فلنحم فلسطين من الطامعين بالسلطة فيها ولو على حساب حياتها، كقضية، وحياة شعبها كطوابير من الشهداء الذين بعضهم قضى وبعضهم ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

Exit mobile version