طلال سلمان

حتى لا يظل شهداؤنا مكبا للنفايات

الشهادة عارية مثل »البورة« التي حوَّلها تعجّل الخلاص من البقايا الإنسانية الى مقبرة جماعية يندر مَن يعرف، على وجه التحديد، »مَن« و»كم« دُفن فيها من سكان المخيمين في صبرا وشاتيلا،
الشهادة عارية وخرساء مثل السماء التي وحدها احتضنت أبناء الفقراء وأيتام الثورة، ووحدها حفظت أسماءهم إلى جانب مَن سبقهم من ضحايا المجازر الإسرائيلية داخل فلسطين…
الشهادة عارية وخرساء مثل تلك المسيرة التي انتظمت أمس، مع غروب آخر أيام السنة الخمسين على المجزرة الأولى في دير ياسين، لتقول إن إسرائيل هناك هي هي إسرائيل هنا، في بيروت، هي هي إسرائيل في سوريا، هي هي إسرائيل في مصر، هي هي إسرائيل في الأردن إلخ، وإن كان العرب مرشحين لأن يكونوا الشهداء الجدد، بل »الموتى« الجدد، بعدما حرَّمت الاتفاقات الكلمات الحربية مثل »القضية« و»الشهادة« و»الشهداء« و»العرب« و»فلسطين« والأحلام المخبوءة مثل »الوحدة« و»التحرير« و»الغد الأفضل«.
الشهادة عارية مثل »الشهداء« المجهولي الأسماء، بل المجهَّلي الأسماء كما هي مجهَّلة أسماء القتلة، حتى لا يكون حساب ولا يكون عقاب إلا للذين قُتلوا وشُوِّهت جثثهم ورُميت في »مزبلة«، ما تزال حتى اليوم »مزبلة«، إذ لم يدفن الموتى موتاهم..
الشهادة عارية مثل الخوف الذي ما زال، حتى بعد ستة عشر عاماً إلا قليلاً، يمنعنا من الاعتراف بالذين اغتيلوا ومُثِّل بجثثهم، ويردعنا من أن نقيم لهم نصباً يذكِّر بهم وبقتلتهم الذين ألقوا علينا الدم كله وغسلوا أيديهم قبل صياح الديك.
الشهادة عارية، والنسيان غيمة كثيفة بلا مطر، تظلِّل وجوه الشهود، والذاكرة عبء ثقيل لا يجرؤ على حمله إلا البسطاء ممَّن يقيمون على الحد بين البداهة والجنون.
يغرق »المشيِّعون« الذين جاءوا ليدفعوا عن أنفسهم ولو متأخرين تهمة التقصير، في وحول »المكب« الذي كانت آلية تابعة لشركة »سوكلين« ما تزال تحاول »كشح« النفايات ووحول المستنقع الذي ربما استخدم كقناع قذر لطمس الجريمة وضحاياها.
ترتعش الأضواء الخافتة للشموع ونسيمات الربيع تداعبها، ويتناثر العطر الشحيح لورود الذاكرة البيضاء، ويتقافز المصوِّرون ليسجلوا أخيراً الخبر اللبناني الأول عن المذبحة والشهداء وقد تبدّل الجناة فصاروا قضاة،
الشهادة عارية، والمسيرة كفارة متأخرة، تشهد على عجزنا المستمر.
والصمت يليق بالشهداء.
لم يكن في المسيرة »رسمي« واحد، ولم تكن تحمل ترخيصاً ممهوراً بالأختام الموقرة.
كان لخطى الحزن وقع، وكان للوقع صدى كخفقات القلوب.
متى تصير المقبرة مقبرة؟! متى ندفن موتانا؟! متى نحترم أبطالنا ولو ضحايا؟! متى نحترم إنسانيتنا ولو كسيرة ومهيضة الجناح؟! متى نحترم تاريخنا ولو مهزومين لعلنا نعرف طريق الخروج من الهزيمة؟!
إنهم ضحايانا جميعاً،
وهم في موتهم موحّدون لا فرق بين الفلسطيني واللبناني والسوري وحامل الهوية المبهمة »قيد الدرس«،
ننتظر قراراً »طبيعياً« باعتبار الشهداء موتى، ومدفنهم الجماعي »مقبرة« تجلّلها حرمة الموت التي تؤكد أننا أحياء بعد،
متى نتوقف عن الإعدام اليومي لشهدائنا؟!

Exit mobile version