طلال سلمان

حتى لا يشيخ تحرير وعيدة

يفتقد الاحتفال بالتحرير كإنجاز تاريخي، لبنانيا وعربيا، حرارة »العيد« وتوهج الفرح بذكراه الثالثة، حتى ليبدو كأن إجلاء الاحتلال الإسرائيلي قد تم قبل دهر!
وبرغم »الهيصة« الرسمية والإعلامية، فإن »العيد« يبدو كأنه »يتيم« أو أنه شاخ قبل الأوان، مع ان أهله قد دفعوا من دمائهم وما يملكون الثمن الباهظ لاستقدامه من داخل الاستحالة.
لقد تم استهلاك »العيد« بسرعة قياسية، وحلت المرارة أو الخيبة محل البهجة، وكادت صراعات المواقع والمنافع، والخلافات السياسية المغلفة بالطائفية والمذهبية، تضيِّع دلالاته العظيمة وتذهب بوهجه وتضعف تأثيره »كنعمة« هبطت على العرب من حيث لا يتوقعون فأعطتهم »القدوة« التي تعزز إيمانهم بأنفسهم وبقدرتهم على المواجهة وإحراز النصر، بغض النظر عن أعدادهم أو عن حجم ثرواتهم الوطنية، إذا ما تماسكت مجتمعاتهم بوعيها وليس فقط بعاطفتها، من خلف طليعتهم المقاومة.
طغت هموم الحياة اليومية، في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة وصراع ديوك السلطة وفضائح العجز عن تلبية احتياجات الأهالي العائدين بعد نفي قسري الى ديارهم التي كانت محتلة، فتاه »العيد« في زواريب الخلافات المفتعلة والإشكالات المانعة للعودة: هل يعود مع الجيش أم من دونه، وهل يجتاز حاجز »الخط الأزرق« أم يتوقف دونه، وهل يعود والكهرباء والمياه في بعض المدن والقرى »إسرائيلية«؟! وهل يعود فيطير مجلس الجنوب أم يبقى المجلس ويطير ماله؟! الخ…
أما على الصعيد العربي فقد أشاحت أنظمة العجز العربية بوجهها عن لبنان، وكأنها لا تريد ان »تعترف« بنصره الذي يفضحها.
في ما عدا سوريا التي كانت شريكة فعلية في مرحلة المقاومة، والتي قدمت لمرحلة ما بعد التحرير مساعدات مؤثرة، لم يتلق لبنان مساعدات تذكر من أشقائه العرب، يستوي في ذلك أغنياؤهم والفقراء… اللهم إلا تلك المساعدة التي لم تصرف كلها بعد والتي قدمها رئيس دولة الامارات، الشيخ زايد، لإزالة غابات الألغام التي زرعت بها اسرائيل الموت في الأرض المحررة، لكي لا ينسى اللبنانيون »أفضالها« أبداً!
بعد التحرير، وهو إنجاز عظيم، يبدأ »الجهاد الاكبر« وذلك بتحصين الارض المحررة بأهلها… وهنا يبدو التقصير فضائحياً: لقد عادت الارض، لكن أهلها المتشوقين الى العودة للانغراس فيها لم يعودوا إليها! اكتفوا بزيارات لمواعد قصيرة مع الفرح، ثم هجروها مجبرين، مرة اخرى، ولكن لأسباب تتصل، هذه المرة، بدولتهم لا بعدوهم. لم يجدوا فيها مصدراً للحياة. لم يجدوا فيها مستشفى او مدرسة مكتملة التجهيز، المياه شحيحة والكهرباء كثيراً ما تنقطع، والطرقات على حالها من الاهمال المزمن… ثم إن الزراعة لا تطعم خبزاً، وليس من صناعة، والتجارة الحرام (مع العدو) توقفت بطبيعة الحال. وهكذا وجدوا انفسهم غير قادرين على البقاء في بيوتهم وفي ارضهم، ومشوا على أجداث أحلامهم عائدين الى الضواحي المزدحمة بالمحتاجين أمثالهم، وقد عجزوا عن حمل العيد معهم الى بيوتهم الضيقة هنا.
كيف يستطيع اقتصاد وطني منهك بأثقال مليارات الدولارات من الديون وخدمة الدين العام أن يحصن الارض المحررة بأهلها بعد توفير أبسط حقوقهم من الخدمات فيها؟!
***
أما على الصعيد العربي، فقد كان هم كثير من السلاطين والقوى السياسية اغتيال هذا العيد ذي الاشعاع الخطر على نهج الاستسلام السائد؟!
أين موقع عيد التحرير في سياق المبادرة العربية (المباغتة) لسلام ترفضه اسرائيل، لأن عارضه الضعيف الى حد التهالك لا يملك بديلاً منه؟!
ثم من تراه مستعداً لتحمل تهمة المقاومة في زمن ما بعد 11 ايلول، حيث صارت كلمة »لا« إرهاباً، ولو جاءت في مجال الشهادة بأن لا إله إلا الله؟!
ثم إن الاحتفال مع اللبنانيين بعيد التحرير يعتبر تحريضاً إضافياً للفلسطينيين الذين قبسوا من المقاومة في لبنان بعض أساليبها، وتعزز إيمانهم بانتصارها، وأكدت لهم »سابقتها« إمكان الانتصار في جهادهم بدمائهم وفوق أرضهم ضد العدو ذاته الذي خرج مدحوراً من أرض إخوانهم وجيرانهم اللبنانيين؟!
ولم يكن مصادفة أن تتفجر فلسطين بانتفاضتها المباركة بعد شهور قليلة من انتصار لبنان بمقاومته، وأن يتصلب عودها بالمواجهة اليومية للآلة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي، وأن تفيد كثيراً من تجربة المقاومة في لبنان بتجنب أي اشتباك داخلي، سواء بسبب الاختلاف في الاجتهاد أو الافتراق في أسلوب العمل.
لقد اسهم المناخ الديموقراطي، النسبي، في لبنان، في حماية مقاومته الباسلة، وفي تصليب عودها وتعزيز قدرتها على الإنجاز… فقد وفر هذا المناخ التفافاً شعبياً واسعاً حول هدفها الوطني الجامع، عززه التزام أهل السلطة بهدف التحرير الوطني، وتحمل الجيش الوطني (المعزز بالغطاء السوري) عبء حماية ظهر المقاومة وإسنادها بإمكاناته، ولو ضعيفة، بحيث لم تعد تخاف من طعنات الغدر تأتيها من خلفها بينما سلاحها موجه إلى العدو أمامها.
وأبرز دروس تجربة لبنان ان مقاومة مكشوفة الظهر، مرتبكة القيادة، مبلبلة في شعارها السياسي، لا تستطيع تحقيق إنجار عظيم كالتحرير.
ثمن إن المقاومة ليست عملاً محلي الأبعاد والتداعيات… فهي قد تتحول بخطأ الممارسة أو بطيش الحماسة أو حمى الثأر إلى مواجهة مع العالم كله.
* * *
ان حماية التحرير، كإنجار وطني وعربي، مهمة جليلة لا تقل خطورة عن تحقيق النصر الذي أعطانا العيد.
وأهل العيد يستحقون أكثر مما أعطتهم دولتهم التي تتبدى في بعض الحالات وكأنها »تعاقبهم« على خرقهم الاستحالة وتحقيق النصر.
إن حماية التحرير خدمة جليلة تقدم لشعب فلسطين الذي يقاتل بدمه لاستخلاص حقه في أرضه، في أقسى الظروف التي يمكن تصورها والتي عنوانها سقوط الحدود والتوحد في المصالح الأميركية الإسرائيلية.
وليس سراً أن العدو الإسرائيلي يحاول تشويه هذا الإنجاز الوطني العربي، أو تخريبه بالعمل المباشر ضده، بعمليات الاغتيال الهادفة الى ضرب الوحدة الوطنية او الى إحراج سوريا في لبنان، أو خلخلة علاقات اللبنانيين مع الفلسطينيين.
إن حماية »الداخل«، وتحصين الجنوب بأهله، والتوقف عن هدر الزمن والمال والجهد في صراعات سياسية غير مبررة وغير مفهومة، هي المدخل لاستبقاء »العيد« ولو رمزياً، فلا يتحول الى مصدر لاستثارة الهموم، كلما هلّ هلاله من جديد.
والعيد بأهله.. وأهله لبنان كله ومعه العرب في كل أرضهم وعنوانهم فلسطين.

Exit mobile version