طلال سلمان

حتى لا يربح »الاحتكار« مرة اخرى

لو صدَّق اللبنانيون أن حكومتهم جادة في تخفيض كلفة حياتهم اليومية بضرب الاحتكارات ولجم فوضى الأسعار وتثبيت »ثمن« التعليم والسكن والاستشفاء عند حدود مقبولة، قياساً إلى مداخيلهم، لخرجوا إلى الشوارع مهللين هاتفين بحياتها… ولحمل فقراؤهم فريقها الثلاثين الموشح بالذهب على الأكتاف، ونادوا لها بطول العمر وبما يتجاوز المهل اللازمة لانعقاد قمة آذار العربية، وتحصيل ضريبة القيمة المضافة العشوائية وتحقيق الخصخصة الانتقائية واستيفاء المتأخر من حقوق الخزينة على الهواتف الخلوية والديون الهالكة من عوائد الأملاك البحرية الخ…
لكن الوقائع اليومية (المكلفة!!) تجعل هؤلاء اللبنانيين لا يصدقون… فالوعد أن يدفعوا أقل ويأخذوا أكثر، والواقع أنهم يدفعون أكثر ويأخذون أقل! والوعد أن الرخاء قادم، والواقع أن الكفاف صار أملاً معلقاً في الهواء ويكاد يتحول إلى حلم بعيد المنال.. فما لم تلتهمه فوضى التجارة أكلته فوضى الضرائب والرسوم وآخرها ضريبة القيمة المضافة إلى هموم هؤلاء اللبنانيين الذين تعوّدوا أن يدفع أصحاب الدخول المتواضعة ما يُفرض عليهم في حين لا يدفع أثرياؤهم والمحتكرون والسماسرة والمنتفعون بخيرات المال العام حق الخزينة والمجتمع من أرباحهم الفاحشة.. الحلال!
ومن المفارقات اللبنانية التي لا مثيل لها ولا شبيه أنه في حين تتحول الرئاسات والوزارات والنيابات والمواقع الممتازة إلى »احتكارات« شخصية وعائلية، مموهة بالمذهبية أو الطائفية، تتحرك الحكومة المجسدة لهذه المفارقات فجأة وبغير تمهيد مقنع وإعداد مدروس إلى »حرب« لتحرير التجارة من الوكالات الحصرية ومختلف أشكال الاحتكار!
فالدوائر الانتخابية احتكارات لها وكلاؤها الحصريون، والقوائم المؤهلة للفوز ديموقراطياً هي تلك التي تضم »التروست« الأغنى والأعرق في إثبات حصرية »وكالته« عن الشعب وقدرته بالتالي على تجيير الأصوات كما تجيّر شحنات البضائع أو الأغنام!
… ولو كان في البلد معارضة موثوقة لها برنامجها الجدي ولها تنظيماتها السياسية والحزبية والنقابية وقواعدها الشعبية، لكانت أفادت وإلى أقصى حد من الارتباك الحكومي والعجز عن مواجهة المشكلات الاقتصادية الاجتماعية، فأسقطتها في الشارع (!!) وجاءت لتحل محلها معززة بخطتها الإنقاذية العتيدة!
فكل يوم تقدم هذه الحكومة، كما الحكومات السابقة، أدلة دامغة على فشل أو محدودية المعالجات المطروحة للأزمة الاقتصادية الاجتماعية بمفاعيلها الخطيرة، والتي قد يمكن إرجاء تفجراتها ولكن لا يمكن الاستمرار في التعامي عنها والتهرب من مواجهتها في عينيها وبما تقتضيه هذه المواجهة من إجراءات صارمة ومؤلمة ولكن لا بد منها.
وفي موضوع ضرب الاحتكار فإن ذاكرة اللبنانيين تحفظ الكثير عن محاولات جرت، في عهود سابقة، فباءت بالفشل، إما لأن الذين نادوا بها، من موقع السلطة، لم يكونوا جديين كفاية، وإما لأن الهجوم المضاد كان أشرس من أن تطيقه السلطة القائمة على توازنات هشة، والتي يمكن باستمرار استغلال الحساسيات الطائفية والمذهبية لتبرير الغلط وتثبيته، فيصير الحديث عن الاحتكار، مثلاً، هجوماً إسلامياً على المسيحيين، ويتماهى الدفاع عن المحتكرين مع واجب حماية الوحدة الوطنية!
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن ثمة مرسوماً تشريعياً صدر في العام 1967 (بعد الهزيمة) وكان وزير الاقتصاد آنذاك العالم الراحل سعيد حمادة، يمنع أن يسيطر عدد قليل من »المحتكرين« على السلع والأسواق التجارية، ولم يقدر لهذا القانون أن ينفذ جدياً، وسرعان ما طوته المصالح ذات الحصانة..
على سبيل المثال أيضاً يمكن التذكير بمحاولة سابقة للرئيس رفيق الحريري نفسه، قبل ست سنوات، فضلاً عن محاولات عديدة لحكومات أخرى، في عهود مختلفة، وقد خابت جميعاً وسقطت دون هدفها المعلن، تاركة الناس يسبحون في بحور سوء الظن أو سوء التقدير أو سوء الفهم قبل أن يغرقوا في لجة الخيبة، مرة أخرى.
إن منع الاحتكار من القواعد المركزية للرأسمالية الحديثة، وأشهر وأفضل قانون لمنع الاحتكار هو ذلك الذي أنتجته الرأسمالية الأميركية قبل مائة واثنتي عشرة سنة (1890).. وكلنا يتذكر تطبيقه الصارم مؤخراً ضد مايكروسوفت..
لكن هذا القانون جزء من منظومة قانونية متكاملة، وهو لم يفرض ارتجالاً أو بالأمر، أو بالاضطرار ولمعالجة ضائقة اقتصادية عارضة.
وقد يكون مطلوباً من لبنان الآن إصدار بعض القوانين الملازمة لاتفاق الشراكة الأوروبية.
كذلك قد يكون مفروضاً عليه أن يعيد صياغة بعض الإجراءات والنظم العشوائية والتي يتم استصدارها موسمياً ووفقاً لحاجات عارضة في الغالب، التزاماً بالضوابط التي تفرضها منظمة التجارة العالمية.
لكن ذلك كله لا يعني أن تأتي التلبية مرتجلة، وفي آخر لحظة، وبغير إعداد جيد ودراسة متأنية، والأهم: بغير تحضير »للجمهور« المعني والمستفيد (مبدئياً) سواء من الشراكة مع الأوروبيين أو من الانخراط في منظمة التجارة الدولية.
إن منطق »الصفقة« هو الغالب،
وطابع »تهريب القوانين« هو المعتمد وكأنه القاعدة،
ربما لهذا تأتي النتائج مغايرة للمنطق وللقانون ولمصلحة الناس الحقيقية، إذ بسبب الارتجال وتهريب القوانين والاشتباه في الأغراض المستهدفة، يتبدى وكأن الناس ينسون أنفسهم ويقفون ضد مصالحهم المباشرة، »فيتعاطفون« مع »المحتكر«، ويشفقون على »المستغِل«، ويرفعون إلى سدة النيابة المتهم بالاختلاس… وكل ذلك نتيجة اشتباههم بأغراض الحكومات المختلفة أو عدم اطمئنانهم إلى أمانتها وصدقها في ادعاء خدمتهم!
لقد تعوّد اللبنانيون على أن يخسروا، مع حكوماتهم، بعض تطلعاتهم، بل وبعض حقوقهم المشروعة.
وهم الآن خائفون من أن يدفعوا ثمن معركة لا يبدو في الأفق ما يدل على أن الإعداد لها كان جيداً بحيث يضمنون أن يربحوها ويخسر الاحتكار بعض بعض امتيازاته الكثيرة.

Exit mobile version