طلال سلمان

حتى لا نغتال رفيق حريري مرة اخرى

ليس ابشع من جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلا التستر على »أبطال« هذا الاعتداء المباشر على الوطن وسلامة مواطنيه، المخطط منهم والمنفذ، المتواطئ والمستفيد… وكل هؤلاء شركاء.
وليس مبالغة القول انها جريمة تتجاوز باستهدافاتها كما بتداعياتها، لبنان، حتى ليمكن وصفها بأنها جريمة ضد الأمة العربية جمعاء، لأنها ستخدم اعداء العرب مرتين فهي ستصورهم قتلة لرواد الاصلاح والتقدم الاجتماعي من أبنائهم الميامين، كما سيفيد هؤلاء الاعداء من حالة الارتباك والمخاصمة للنفخ في رياح الفتنة التي باشروا في تغذيتها منذ ما قبل احتلال العراق، ويعملون على ادامتها لتكون قدراً يفرض عليهم المزيد من التخلف والتفكك والانهيار بحيث تصبح »الحماية الأجنبية« مطلباً علنياً وإن كانت ذريعته السعي إلى الديموقراطية.
لقد كان رفيق الحريري، بوهجه الذهبي وبنجاحاته السياسية، نموذجاً ناجحاً لواحد من رواد الاصلاح الاجتماعي، عربياً، يهتم بتعليم الاجيال الجديدة وينفق من ثروته على عشرات الألوف من الطلبة فيوفدهم إلى ارقى جامعات العالم، وينشئ المراكز الصحية والاجتماعية فيقدم المساعدات إلى اليتامى والأيامى وأبناء السبيل والمساكين، من دون منة وطبعاً من دون مقابل.
كما انه قدم نموذجاً ناجحاً لرجل الدولة العربي، ورجل المهمات الصعبة المتصلة بعلاقات أكثر من دولة عربية بالقوى الدولية الكبرى…
وإذا ما وضعنا جانباً مواقف المسؤولين الذين عرفوا الشهيد وكلمات الرثاء التي قالها »الكبار« فيه، والتفتنا إلى رد فعل »الشارع العربي« وما جرى على السنة المواطنين البسطاء في مختلف العواصم العربية قريبها والبعيد، لتبين ان الرئيس الشهيد كان »العربي الأول« ولعله كان »المسؤول العربي الوحيد« الذي أحدث اغتياله كل هذا الحزن وكل هذا الشجب والاستنكار وكل هذا الخوف على مستقبل لبنان، وجواره العربي، قريبه والبعيد.
لقد كان رفيق الحريري، بحق، رجل لبنان العربي، ورجل العرب الدولي..
أما في لبنان، فإن تهالك السلطة يكاد يتسبب في تحويل المأساة التي اصابت الوطن باغتيال رفيق الحريري، إلى كارثة وطنية تتهدد لبنان في هويته كما في وحدته.
* * *
ليس في بعبدا غير »الفراغ«،
… وهو فراغ لا تستطيع ان تملأه، في ظرف استثنائي، حكومة ولدت بمنطق »المكايدة«، فكانت منذ لحظة تشكيلها طرفاً مخاصماً لاطراف سياسية أساسية في التركيبة اللبنانية، فضلاً عن ان الناس لم يستقبلوها بالترحاب، وقبلوا بها اضطراراً وباعتبارها حكومة مؤقتة، لستة شهور لا تزيد، مهمتها محددة ومحدودة: اجراء الانتخابات النيابية.
وهكذا تكامل العجز في السلطة، وحَكَم التحدي مسلكها اليومي، بمنطق دفاعي متهالك وإن اتخذ شكل الهجوم على معارضيها الذين وفرت لهم المناخ الصحي لائتلافهم من فوق تناقضهم في المواقف والاغراض والمصالح.
فلما وقعت الواقعة باستشهاد الرئيس رفيق الحريري صار الفراغ في السلطة فضيحة تنذر بالتحول إلى كارثة، إذ اكتشف الناس ان مثل هذه السلطة الضعيفة والمطعونة في حيدتها، وبالتالي في صدقيتها، اعجز من ان تضمن أمنهم اليومي فكيف بأن تحمي حرياتهم وتطلعهم إلى تمثيل أفضل يكون مدخلاً إلى الاستقرار السياسي والنهوض الاقتصادي واستعادة الثقة المفقودة بالمستقبل.
لقد انزلقت السلطة، التي تفتقر إلى الشعبية اصلاً، والتي تعاني من خلل بنيوي يكاد يفقدها القدرة على القرار، فضلاً عن الانجاز، إلى مهاوي التصدي للغضبة الشعبية التي تفجرت مع اغتيال الرئيس الشهيد، مفترضة انها تخوض معركة تقليدية مع »المعارضة« التي تكتلت بعد خطيئة التمديد ثم تمددت بعد رفض الرئيس الحريري تشكيل الحكومة، والتسرع في اقامة حكومة هشة بمن حضر..
ومن خلال التصريحات غير المسؤولة والتهديدات العنترية والتخبط في الحديث عن جريمة الاغتيال وعن التحقيق، وفي اطلاق الاتهامات العشوائية ضد »اشخاص« و»جهات«، تفتقر إلى الدليل، فقدت السلطة صدقيتها كمرجعية وطنية قادرة ومؤهلة وموثوقة بحيث يمكن الاطمئنان إلى جديتها (فضلاً عن قدرتها) في كشف اسرار هذه الجريمة بحق الوطن.
وهكذا زاد الضياع، وتوفر للمعارضين المزيد من الوقود، فقرروا تحويل الاعتراض إلى »انتفاضة« باستغلال النقمة العارمة الناتجة عن الاحساس بفقد »رجل لبنان«، والعجز عن حماية الأمن الوطن، وافتقار السلطة إلى الصدقية، والطبيعة الانتقالية لحكومة انتخابات ولدت من رحم المخاصمة والمكايدة (مع رفيق الحريري تحديداً) واستغلال مواقع السلطة لأغراضها، ولم تستطع ان تنفي عنها هذه الصفات، بل هي كانت كل يوم تؤكد انها طرف، وأنها »ستقاتل« كل من يعترض عليها أو يطعن في »شرعيتها«… حتى والناس يتحققون، يوماً بعد يوم، من افتقاد هذه السلطة إلى التماسك وإلى »الشرعية الشعبية«.
* * *
ليس في بعبدا غير الفراغ..
وهو فراغ لا تستطيع ان تملأه حكومة انتقالية، خصوصاً بعد الفاجعة الوطنية التي ضربت لبنان مع استشهاد رفيق الحريري.
ربما لهذا اطلق الأمين العام ل»حزب الله« السيد حسن نصر الله نداءه، متجاوزاً السلطة، داعياً إلى اللقاء المباشر والحوار الجدي بين الاطراف السياسية، المختلفة في طروحاتها إلى حد الانقسام الذي يهدد بقطيعة، في صيغة مؤتمر وطني على القاعدة الذهبية التي ظل يتمسك بها رفيق الحريري حتى استشهاده: اتفاق الطائف.
وربما لهذا اطلق البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير نداءه، أمس، عبر عظته الأسبوعية، محذراً من التطرف الذي يقود إلى المواجهة بين الاطراف، فلا ينتج غير الفتنة التي يمكن ان تذهب بالبلاد بدولتها وبوحدة شعبها..
ولعل اللبنانيين يأملون، بعد، في أن تكون روح رفيق الحريري عامل جمع بينهم، وفاء لجهده من أجل إعادة بناء الدولة (ومجتمعها) على قاعدة متينة من الوحدة الوطنية عنوانها اتفاق الطائف.
* * *
الحزن مشاع.. وليس بين اللبنانيين من يستطيع احتكار الحزن او ادعاء صلة قربى خاصة بالرئيس الشهيد. لقد تأكد ان لكل لبناني فيه نصيبا… بل ان لكل عربي من المحيط الى الخليج نصيبا في رفيق الحريري.
الاحساس بالفقد شامل. ولا يقدم الحشد الا صورة مجسمة للفراغ الذي تركه الشهيد، ليس فقط على المستوى المحلي، بل كذلك على المستوى العربي.
لقد كان رفيق الحريري رجل لبنان العربي ورجل العرب الدولي.
وكثيرا ما فوضته غير عاصمة عربية، وأولها دمشق، ليتحدث باسمها في المحافل الدولية.
انه يستعصي على »الاحتكار«. انه اكبر من ان يدعي الانتساب إليه فريق دون فريق.. وهو ارحب من ان يكون خصما لاي طرف، في الداخل كما في المحيط العربي.
فرفيق الحريري كان لبنانياً بامتياز، وسورياً بامتياز، وسعودياً بامتياز، ومصرياً بامتياز، وخليجياً بامتياز، واردنياً بامتياز، اما فلسطينيته التي لم تكن بحاجة الى دليل فلعل أرق ما يجسدها تلك الرسالة التي بعث بها من ابعدهم الاحتلال الاسرائيلي عن ارضهم في شتاء العام 1993 الى مرج الزهور، والتي يعبرون فيها عن حزنهم عليه جميعا، شهداء وأحياء، ويعاهدون روحه على مواصلة الجهاد حتى التحرير.
***
الحزن مشاع… وبالتالي فهو عنصر توحيد بين اللبنانيين..
وأعظم اساءة لرفيق الحريري ان يكون استشهاده عامل تفريق بين اللبنانيين، بمختلف تلاوينهم السياسية والطائفية..
اما ما هو افظع فهو ان يتحول استشهاد رفيق الحريري الى عاصفة عنصرية ضد السوريين عموما، عمالا وطلبة ورجال اعمال وعابرين، وأن توظف الاغراض السياسية لخلق حالة عداء بين اللبناني والسوري.
ولقد خبرنا، بالتجربة المرة، ان الشوفينية قاتلة لبلد كلبنان، سره في تنوعه وفي رحابته في قبول الآخر.. وفي هويته العربية الجامعة. ذلك ان الشوفينية تستولد العنصرية التي تذهب به الى الاجنبي ليستعين به على »الاهل«..
وها نحن نعاني، بعد، من الآثار الارتدادية لعنصرية ما مورست ضد الفلسطيني، في مرحلة سابقة، ثم لم تتوقف بعد رحيل قيادة منظمة التحرير وطي صفحة الكفاح المسلح، بل هي قد تم تشريعها فبات محرما على اي فلسطيني ان يتملك شقة لسكنه مع عائلته في لبنان..
فلا تغتالوا رفيق الحريري، مرة اخرى، باستهدافه في عروبته الاصيلة، التي رضعها في صيدا القلعة العربية حيث تتقاطع معه وفلسطين وسوريا وتربى في احضانها شابا وخدمها مسؤولاً يحتل موقعاً قياديا في بلاده، وله رصيده المحترم عربيا.. وقد سقط شهيدا دون ان يهتز ايمانه بها ولو للحظة.
لا تتأكد وحدة لبنان بخروجه من العروبة وعليها.. بل هي تتعزز بها. وهي عروبة لا تحتاج الى شهادات من خارجه، ولكننا لا نخرج منها او عليها اذا ما اخطأ طرف عربي، خصوصا ان هذا الخطأ سيصيبه بضرر يعادل بل وقد يفوق ما يصيبنا.
ثم إن وحدة لبنان تتعزز بالاعتدال وروح التسوية، فإذا ما ساد التطرف انفرطت التسوية وتشطرت البلاد واندثرت الدولة التي لا تقوم خارج العروبة او العداء لها.
فلا تغتالوا رفيق الحريري، مرة ثانية بعد استشهاده، »لاحتكار« تمثيله بعد غيابه، ثم للاندفاع في طريق معاكس لكل ما كان يؤمن به ويعمل له طوال حياته، اي التسوية التاريخية على قاعدة اتفاق الطائف، التي توفر له ضمانات هويته العربية وتعصمه من مخاطر التدويل وصولا الى طلب الحماية الاجنبية التي بدأت ترتفع بها بعض الاصوات فتقض مضاجع الشهيد حيث يثوي الآن في رحاب الله…

Exit mobile version