طلال سلمان

حتى لا تدوم الهزيمة: فلسطين هي الامة جميعاً..

تأكدت باليقين كما بالدليل الحسي الملموس، الهزيمة العربية الساحقة في ميدان فلسطين.

لم ينفع مهرجان التعزية الفخم بخطاباته الطنانة، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في التخفيف من الوقع المدوي للفشل أمام مجلس الامن بالفيتو الاميركي.. أي بفيتو صاحب القرار الأرعن، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني.

عاد ممثلو الدول العربية من نيويورك يهزجون بمواويل الفرح وصيحات الطرب ويرقصون الدبكة اعتزازاً بهذا الانتصار البائس الذي لم تهتز له شعرة في غرة الرئيس الاميركي ذي التوقيع المكعب.

ماذا تريدون أكثر من هذا، أيها العرب المهزومون، الا في حروب بعضكم ضد البعض الآخر، من ليبيا إلى اليمن، ومن سوريا إلى العراق، ومن موريتانيا إلى السودان بالقاعدة التركية الجديدة في جزيرته الصغيرة المطلة على البحر الأحمر؟!

ارصدتكم ليست لكم. البنوك الاميركية والخزانة الاميركية اولى بها منكم: أنتم تبذرونها على شراء القصور واليخوت في بعض انحاء اوروبا الجميلة، او في ماليزيا واندونيسيا، فضلاً عن الرباط وطنجة ومراكش.. أما في بلاد التمدن والحضارة فينفق المال على الصناعة والازدهار الاقتصادي وصناعة السلاح الذي نزودكم بالفائض منه عن حاجتنا.

طلابكم يدرسون في جامعاتنا فيعودون اليكم ـ إذا ما عادوا ـ مثلنا لا مثلكم، يأتمون بتقاليدنا وتفكيرنا ونمط حياتنا، ويخجلون من ماضيهم البدوي معكم،

ورجال المال والاعمال عندكم “يستشيرون” شركاتنا أين يوظفون ارباحهم الهائلة المهربة و”الشرهات” التي تجنى بلا تعب، وفائض العائد من غنائم المقاولات التي تعطى للأقرب والأطوع..

أما ملوككم والرؤساء والامراء فيأتون تباعاً، يسمعون فيعون ويلبون، ويعودون مزهوين بصورهم في البيت الابيض والبنتاغون، وتصريحاتهم الحافلة بالإشادة بحسن الوفادة والتكريم..

إن فلسطين بخير طالما نحن بخير.. فاطمئنوا!

*****

لكن فلسطين ليست بخير: فها هو الاحتلال الاسرائيلي يبيد ما تبقى من القرى الفلسطينية او يحاصرها بالمستوطنات، ويضيق على اهلها الذين كانوا دائماً اهلها لكي يخلوها ويرتحلوا إلى اية جهة أخرى.. ويزنر القدس الشرقية بالمستعمرات الجديدة مضيقاً على أهلها الذين اعطوها الاسم والهوية حتى يخرجوا منها إلى المهاجر البعيدة، لكي يحافظوا على فلسطينيتهم التي يمنع عليهم الجمع بينها وبين مكان الولادة في أرض الآباء والاجداد!

لكن فلسطين ليست بخير: فأهل “السلطة” شاخوا ونسوا ايام الجهاد، وباتوا مستسلمين للواقع، لا يريدون العودة إلى صفة “اللاجئين” مرة أخرى، وان كان لا بد من اللجوء فليكن إلى الارض المقدسة حيث يمكنهم أن يموتوا “فلسطينيين” ولو تحت الاحتلال!

و”عهد التميمي” قدوة، لكنها ليست كل الشعب الفلسطيني..

لقد تعب الشعب الفلسطيني من خيبات الامل: ينتفض فيخرج إلى الشوارع حاملاً ارواحه على أكفه، ويعود منها ببضعة شهداء وعشرات الجرحى والمعتقلين… بينما الاذاعات العربية، مسموعة ومرئية، ومعها الصحف، تتزاحم على نقل اخبار المواجهات واعداد “الضحايا” بحرفية عالية!! كأنما هذه الوقائع قد جرت في الكونغو او زامبيا او الفيليبين او جزر الواق الواق..

“عهد التميمي” بألف رجل مما تعدون..

و”عهد التميمي” تستطيع مواجهة عشرات الجنود، بيديها العاريتين، وبإرادتها المن فولاذ وبحقها الراسخ في ارضها..

لكن “عهد التميمي” ليست نجمة سينما او عارضة ازياء، او ممثلة مسرحية: انها الشعب الفلسطيني جميعاً، ولكنها عزلاء الا من ارادتها ومن ايمانها بحقها في ارضها… وجيش العدو هائل العدد، يحاصرها، يطوقها، يهاجمها جنودهم فتصدهم بيديها العاريتين وارادتها المن نار.. لكن هذا لا يكفي لمواجهة العسكر المتوحش الآتي من ابعاد اصقاع الدنيا عن فلسطين، والذي لا يقدس الارض، ولا يحترم التاريخ، ولا يعني له المسجد الاقصى او مسجد الصخرة او كنيسة القيامة أكثر من مكان قديم آيل للسقوط.

نقرأ عن صفقات السلاح التي يشتريها ملوك العرب وامراؤهم بالمليارات، من الولايات المتحدة الاميركية، اساسا، وبريطانيا، احيانا، وفرنسا في أحيان أخرى، ومؤخراً من روسيا.. ولكننا لا نرى لها استخداماً في الميدان الاصلي، فلسطين، بل في انحاء اخرة بعيدة كل البعد عن فلسطين، كاليمن مثلاً، حيث يُقتل يومياً العشرات من فقراء شعبها، وحيث يهدد الموت بالكوليرا مئات الآلاف من اطفالها. ونسمع عمن يقتلون وُيقتلون في ليبيا التي تكاد تندثر ولا من يسأل عن مصير شعبها الباسل..

نسمع ونقرأ عن الدمار الهائل الذي ألحقته عصابات “داعش” وما ماثلها من جماعات الاسلام السياسي المسلح، بالعراق، ثم بسوريا.. ثم نسمع ونقرأ أن هذه العصابات قد “تبخرت” فذاب مئات الالوف من مجنديها بشعورهم الطويلة وأسلحتهم الفتاكة، وفيها دبابات من أحدث طراز، وصواريخ بعيدة المدى، ومدافع ثقيلة، ومصفحات، وطائرات من دون طيار.. فلا نعرف هل ابتلعتها رمال الصحراء ام غرقت طوابيرها في نهر الفرات، ام انها وجدت من يسر لها طريق العودة من حيث جاءت، وهو هو من يسر لها الدخول إلى العراق واحتلال نصفه او يزيد، واحتلال نصف سوريا او يزيد؟!

وبالطبع فان هؤلاء الذين حملوا زورا وبهتانا لواء الجهاد لنصرة الاسلام الحق لم ينتبهوا إلى أن اسرائيل قاعدة عاتية للاستعمار الاستيطاني الامبريالي تطارد بالقتل ومصادرة الاراضي والاعتقال المفتوح شباب فلسطين وفتياتها، ولا تتوقف غارات طيرانها الحربي على بعض انحاء سوريا مع اختراق فاضح لأجواء لبنان..

******

آسف أن كنت قد آثرت المواجع، مع بداية العام الجديد..

لكن زماننا العربي بلا اعياد، بلا بدايات وبلا نهايات..

انه زمن مفتوح على الهزيمة والانكار، انكار الذات وانكار المسؤولية عما جرى ويجري لبلداننا ويتهدد اجيالنا الجديدة بفقدان الهوية والاحساس بالانتماء.

لكأنما الهزيمة قدرنا المحتوم، لا مفر منه ولا مهرب.. فالهزيمة هي الوالدة الشرعية لهذه الانظمة التي تعيش بها وعليها؟!

إن مليارات المليارات تُنفق على السلاح: تشتري الدول الصغيرة اسلحة أثقل من مساحتها، اما الكبيرة فتشتري اسلحة لتجربها في بلاد الآخرين كما في اليمن، فضلاً عن الاستخدام المتقطع في مواجهة التظاهرات والتحركات الشعبية!

إن الهزيمة هي الوالدة الشرعية لهذه الانظمة التي تجبن عن مواجهة العدو الوطني والقومي والانساني، ثم تواجه شعبها بكتائب الشرطة المدججة بالسلاح ممن يخفون وجوههم خوف العقاب.. من أهاليهم.

إنها سنة جديدة من عصر الهزيمة الذي نكاد لا نعرف له نهاية: فالأميركيون جنوداً وطائرات حربية، و”بلاك ووتر” واسلحة حديثة، موجودون في شبه الجزيرة العربية بالكامل، ومعها العراق وبعض سوريا، والجيش الروسي اعلن صراحة عن قاعدتين على الساحل السوري (طرطوس وحميميم) وبقاء القوات حتى العام 2049، وثمة قواعد عسكرية اجنبية في بعض انحاء ليبيا، وقاعدة اماراتية بحرية عند ساحل عدن وبالقرب من مضيق باب المندب على البحر الاحمر.. والفرنسيون لهم وجود عسكري محدود في بعض العراق وبعض الامارات…أما اسرائيل فتمنع على الجيش المصري أن يقضي على العصابات الارهابية في سيناء.

لكن دوام الحال من المحال..

        وإذا الشعب يوما اراد الحياة                فلا بد أن يستجيب القدر

وكل عام وأنتم بخير..

تشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية

Exit mobile version