طلال سلمان

حتى لا تاخذنا وصاية دولية الى حرب اهلية

لو أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري يملك أن يتوجه إلى اللبنانيين، من عليائه، لكان خاطبهم محذراً من الانقسام الذي يقود إلى الفتنة، متبرئاً من كل الذين يحاولون استغلال استشهاده لتدمير مشروع الوطن الذي أعطاه جهد عمره.
…ولو أنه يملك أن يخاطبهم لحذّرهم من خطورة أن يتحركوا بدافع من الغلّ والرغبة في الانتقام بحيث يضيع منهم الطريق الى الحقيقة، فتدفع البلاد ثمن الضياع من هويتها وانتمائها ودورها في مستقبلها.
…لكان نبّههم الى أنهم إن خسروا وحدتهم الداخلية فلن تنفعهم »الدول«، وأنهم إن هم لم يحفظوا دولتهم فلن يفيد في حمايتها »المجتمع الدولي«… ذلك ان هذا المجتمع الدولي لا يتدخل إلا متى غابت »الدولة« او ضعفت او عجزت عن ممارسة سيادتها على ارضها عبر سلطاتها المسلّم بشرعيتها.
…ولكان حذّرهم من خطورة التضحية بالدولة بذريعة الاقتصاص ممن خططوا وحرضوا ونفذوا جريمة اغتيال رجل الدولة الابرز في تاريخ لبنان الحديث: رفيق الحريري… (حتى وإن طالت الشبهة مسؤولين رسميين فيها).
…ولكان منعهم من سفح عروبة لبنان او التنكّر لها بذريعة ان العروبة تقتل أهلها وحملة راياتها، وتمنع قيام دولة الوحدة الوطنية او تعرقل الإصلاح وتحمي الفساد، وإلى أن »الدول الاجنبية« هي الاحرص على لبنان الرسالة من شعبه ومن أهله، حتى وإن كانت اوضاعهم رديئة وإرادتهم عبر حكامهم مرتهنة للخارج.
لكان رفيق الحريري قد صاح في هؤلاء الثائرين طلباً للثأر له:
ليست العروبة من قتلني، بل لقد قتلني من يريد اغتيال العروبة في لبنان… وهو هو من يريد اغتيال العروبة في كل ارض عربية بحيث تفتقد شعوبنا الهوية الجامعة ويهتز إيمانها بوحدة المصير، وتعود الى الوصاية الاجنبية سيراً على إقدامنا، بينما الهيمنة الاسرائيلية تفرد جناحيها فوق أرضنا جميعا..
لقد كان رفيق الحريري ضد القرار 1559… وهو ظل قادراً على التمييز بين موقفه المعترض على التمديد (وإن كان اضطر الى التسليم به استجابة لطلب القيادة السورية التي رأت فيه افضل ما في جعبتها لمواجهة عاصفة دولية عاتية تقودها باريس وتؤيدها واشنطن لاسباب تتجاوز سقطات الادارة السورية في لبنان، وكان الرئيس الحريري قد حذر منها قبل شهور مشيراً الى ان التمديد لن ينفع في صدها بل هو سيزيد من عنفها وسيعرّض لبنان ومعه سوريا الى مخاطر لا قِبل لهما بها).
لكن رفيق الحريري، الوطني، العربي، الحريص على قاعدة »لن يكون لبنان مقراً للاستعمار، أو ممراً لاستعمار أشقائه وفي الطليعة منهم سوريا«، وقف ضد القرار الدولي، بعد صدوره، وإن كان له رأيه في كيفية مواجهته.
…وسقط رفيق الحريري شهيداً، ولم تسقط قناعاته، وكان حتى يومه الأخير يرى ان الخلاف مع سوريا يحل معها، وليس بالاستقواء عليها بالدول، لان ذلك خطأ سياسي فادح، ثم إنه يجر الوبال على لبنان، كائنة ما كانت النتيجة.
***
لننظر الى أحوال لبنان اليوم، انطلاقاً من المحطة الاخيرة المتصلة باستشهاد الرئيس رفيق الحريري، متمثلة في »التقرير الإجرائي« الذي قدمه المحقق الالماني ديتليف ميليس الى مجلس الأمن الدولي، في نطاق عمله لتنفيذ القرار الدولي 1595.
بمعزل عن الملاحظة التي أبداها ميليس حول تأخر دمشق في الاستجابة الى طلبه استجواب بعض المسؤولين فيها، (والتي رد عليها الرئيس السوري بشار الأسد معلنا الاستعداد للتعاون المفتوح معه)، فإن المحقق الالماني سجل على السلطة اللبنانية عيبين خطيرين: إذ اعلن عدم ثقته في أجهزتها القضائية، وكذلك في أجهزتها الأمنية.
وهكذا انفتح الباب للطعن في قدرات السلطة اللبنانية على اجراء محاكمة من سيظهره التحقيق الدولي في خانة من حرّض ومن خطّط ومن نفّذ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد…
نحن، إذاً، امام ثلاثة قرارات دولية تتناول لبنان، بهويته وعلاقاته بمحيطه، (ومن ضمنه العدو الاسرائيلي) 1559 و1614، ثم بقدرة سلطاته الشرعية على القيام بواجباتها الطبيعية، سواء ما اتصل منها بأمن مواطنيه او بأمن دولته (القرار 1595).
فالقرار 1559 هو اشبه بوضع اليد على العلاقات بين لبنان وسوريا، ينهي ما كان قائما منها، ولو بشكل تعسفي ومغلوط، تحت غطاء من معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق، التي صارت أثراً بعد عين.
وإذا كانت جريمة اغتيال الرئيس الحريري قد تسببت في خروج القوات السورية من لبنان، والذي أدرج في خانة تنفيذ القرار 1559، فإن آثار ذلك الخروج المهين قد تركت آثارا مدمرة على حاضر العلاقات بين البلدين الشقيقين وعلى مستقبلها، خصوصا وقد ترافقت بحملة شعواء تجاوزت نظام الحكم في سوريا إلى الشعب السوري كله.
وبمعزل عن مسؤولية الادارة السورية في الاخطاء الجسيمة التي ارتكبت في لبنان، فإن البديل عن علاقات »الاخوة والتعاون والتنسيق« بات يتمثل الآن بمنطوق القرار 1559 وتفسيراته الشوفينية لبنانيا، والتي تؤسس لحالة عداء مديدة بين الشعبين، في ظل انعدام القدرة على المبادرة الى اصلاحها بالسرعة المطلوبة وبالمراعاة المطلوبة للمصالح (قبل المشاعر) التي تربطهما.
كذلك فإن القرار 1559 يتسبب في اثارة نزاع داخلي خطير، يمكن له ان يتحول الى مشروع حرب اهلية، طالما انه قابل للاستثمار في ما يتصل بمستقبل »حزب الله« بوصفه بطل المقاومة لتحرير الارض اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي… ولقد شهدنا محاولات داخلية للطعن بشرعية هذا الحزب، وهو الاكبر حجماً والاعظم رصيداً بين القوى السياسية في لبنان، ثم إنه طرف شرعي وصاحب حضور شعبي مؤثر وفعال في الحياة العامة، لا يمكن تجاهله او القفز من فوقه، ولا يمكن استعداء اللبنانيين عليه، إلا باللجوء الى الفتنة مذهبية كانت او طائفية، والمستفيد الاكبر هو إسرائيل أولا وأخيرا.
تتصل بذلك ايضا الاشارة »الغامضة« في القرار الدولي الى الوجود الفلسطيني في لبنان، مع تجاهل اسباب لجوئهم إليه، ومن هو المتسبب، وإسقاط حقهم في العودة الى وطنهم (مبدئيا وعمليا) مع تحميل لبنان مسؤولية النتائج!
أخيرا فإن القرار 1614 الذي جاء »ليلطف« مضمون القرار 1559 قد حمّل لبنان المسؤولية عن الأمن الاسرائيلي، كأنما طيرانه الحربي هو الذي يخرق اجواء كيانها كل صباح، أو كأن بحريته الحربية هي التي تجوب مياه كيانها على مدار الساعة، وكأن لبنان قد احتل ذات يوم بعض أراضي كيان الاحتلال الاسرائيلي وما زال حتى الساعة محتلاً لجزء منها.
***
ثلاثة قرارات دولية صدرت وأخذ بعضها الطريق الى التنفيذ، وبعضها الآخر سيواجهنا عما قريب من حيث لم نتوقع ولم نستعد:
الاول يفرض على لبنان صيغة »دولية« لعلاقته مع سوريا، وكذلك لعلاقته مع الفلسطينيين الذين جاؤوا الى ارضه لاجئين بعدما طردهم الاحتلال الاسرائيلي من ارضهم… (ناهيك عن إيعازه بضرورة تصفية »حزب الله«).
والثاني يطعن بأهلية سلطاته (الشرعية) لاجراء تحقيق جدي ونزيه في جريمة اغتيال شهيد بحجم رفيق الحريري… وها هو المحقق الدولي يطعن في كفاءة سلطاته القضائية والأمنية لإنجاز التحقيق، فكيف بالمحاكمة الخطيرة التي قد تشكل نقطة تحول حاسمة في الحياة السياسية اللبنانية، وفي علاقات لبنان بمحيطه، والتي يتخوف معظم اللبنانيين من أن تفتح عليهم أبواب جهنم إذا ما تم التلاعب بسياقها او بنتائجها..
والثالث يمهد لاعادة صياغة المنظور اللبناني الى اسرائيل.. فإذا كان الشر يأتيه من »اخوته العرب«، فلماذا يحصر نفسه في منطق العداء لهذا »الجار« الذي جلا عن ارضه المحتلة، والذي تتزاحم الدول العربية الى الصلح معه وفتح مجالات التعاون على مصاريعها؟
كل هذا يجري بينما السلطة في لبنان منقسمة على ذاتها، يتبادل اطرافها اقسى الاتهامات العلنية بما يتجاوز التقصير والفساد الى حافة الإجرام بالقتل العمد!
رئيس الجمهورية الذي أضعفه تمديد ولايته وسط جو محتدم من الاعتراضات فقد حصانته وبات طرفا في الاشتباك.
ولان رئاسة الجمهورية تهتز شرعيتها اذا اهتزت حصانتها فإن اتهام رئيس الجمهورية حاليا هو بين مصادر الطعن في شرعية السلطة القائمة وأجهزتها القضائية والأمنية..
ثم إن الانتخابات النيابية التي استعجل تاريخ إجرائها، وسط جو مشحون بالرغبة في الثأر، وبالهياج الطائفي والمذهبي، قد أدت الى نتائج تكرس الانقسام وتجعله بين مصادر السلطة و»شرعيتها«، بغض النظر عن طائفية القانون الذي أتى بها..
بالمقابل فإن الحكومة التي استولدت قيصريا بمساومات مرهقة جرى حسمها بتسويات شاقة، لكنها مكنت لظهورها، مهددة بالتصدع امام اي قرار جدي بالاصلاح او بالتغيير.. او بتعيين بعض الموظفين!
لكأنما يتم التمهيد لوصاية دولية كاملة على لبنان، وبمساهمات جدية ومباشرة ومؤثرة من اطراف السلطة جميعا… مع الاشارة الى ان بعض السلطة لا يرى في الوصاية الدولية عيبا او خطرا على الهوية او المصير!
وفي انتظار التقرير النهائي للمحقق الدولي الذي سيحدد المسؤولية، سنعيش أياما قاسية لا منقذ من مخاطرها الا عبر التحصن بالوحدة الوطنية، او ما تبقى منها… فهل نواجه الكارثة موحدين او ننشغل بتبادل الاتهامات حول المسؤولية عنها حتى تقع الواقعة فنندم ولا ينفعنا الندم.
والوصاية الدولية ليست الحل بل هي المأزق الذي يتهدد هذا الوطن الصغير بأعظم الأخطار.

Exit mobile version