طلال سلمان

حبش وهيكل حوار مع استحالة

استعادت بيروت بعض روحها وبعض دورها في الزمن الجميل، خلال اليومين الماضيين بفضل المناقشات المثيرة التي شهدتها أوساطها السياسية والثقافية نتيجة لوجود رجلين كبيرين من أصحاب التجربة الغنية في مجال الرأي كما في مجال الممارسة، هما: الشاهد على عصرنا محمد حسنين هيكل والمحارب الفلسطيني الأخير تحت الشعار القومي الذي يرفض أن ييأس فيتقاعد »الحكيم« جورج حبش.
ولقد شكّل اختلاف الموقع الذي شغله كل من الرجلين في حياته العملية عنصر إثارة في النقاش خصوصا مع اختلاف الاستنتاجات التي انتهى إليها كل منهما، إن في ما يتصل بالحاضر أو المستقبل.
استحضر النقاش، على وجه الخصوص، »المشروع القومي العربي«، بأفكاره الأساسية ثم بواقع التطبيق، وما انتهى إليه على المستويين، مقارناً بالمشروع الصهيوني فكراً وتطبيقاً وآفاقه المستقبلية.
فأما الكاتب الكبير فكان حاسماً في أننا نشهد نهاية عصر، وأن الآتي سيكون مختلفاً جداً، وأن ملامحه غامضة ولعلها مخيفة، لأننا لا نملك ما يكفي من القوة ومن القدرة ومن أسباب الوحدة، ولو في الموقف، عربياً، لكي نواجه ما سنلاقيه غداً، خصوصاً »أنهم على الناحية الأخرى من الخطوط أو الحدود« يتحركون بخطة، ولهم من أسباب القوة والإرادة والوحدة ما يؤملهم بمزيد من النجاح في الهيمنة على المنطقة وأقدارها.
وأما الدكتور جورج حبش الذي يعترف بالمسؤولية عن كثير من وجوه الفشل في تجربة العمل القومي، على المستوى الشعبي، ويقر بنجاحات »خط السلطة« أو بالعجز عن إفشالها وعن استعادة الجمهور الفلسطيني الى خط الاعتراض والمعارضة ورفض الاتفاقات (من أوسلو الى واي ريفر)، فإنه ما زال عظيم الأمل في تجديد النضال، داخل فلسطين وخارجها، لتصحيح نهج »السلطة« ودائماً على قاعدة الوحدة الوطنية وبالأساليب الديموقراطية.
لم يتأخر الدفاع عن تجربة جمال عبد الناصر، فالحملة على وجوه الصح فيها ما زالت مستمرة »والذي حدث أن الذين هاجموا الرجل حاضراً طاردوه غائباً لأن العدو الحقيقي لم يكن شخصه، وإنما العدو كما يظهر الآن جلياً كان دوره في التعبير عن رؤية تتعدى حدود الأشخاص… والحاصل أن دور الرجل في عصره وزمانه أصبح مدخلاً إلى تطويق وحصار كل ما هو قابل للبقاء مما عبّر عنه، وما هو قادر على أن يجد لنفسه تعبيرات متجددة تلهم وتقود في أزمنة أخرى«.
يتفق الرجلان على أن ما نحن بصدده الآن، أي احتمال تجدد المفاوضات العربية الإسرائيلية على المسارات الثلاثة، الفلسطيني والسوري اللبناني، لن ينتهي إلى »السلام«. هيكل يعتبر أن القوى المؤثرة، الولايات المتحدة الأميركية ومعها الغرب ومن ثم إسرائيل، ليست معنية ب»السلام«، وإنما هي تسعى إلى »التهدئة« كحد أدنى أو »التسوية« كحد أقصى.. ويخلص الى ان شيئاً من هذه أو تلك ربما يتم الوصول إليه. أما جورج حبش فما يشغله أن تبقى جذوة فلسطين القضية مشتعلة، وألا يطفئها الانحراف أو التآمر أو التخلي العربي.
ومع أن هيكل قد أعطى، عبر النقاش، أمثلة عديدة على أن الأمة قد صممت دائما وبعد كل انتكاسة على العودة إلى القتال، إلا أنه اعتبر ان »قوى السيطرة لم يعد طلبها نزع استقلال وطن أو نزع سلاح أمة وإنما أصبح الطلب نزع إرادة أمة… وهكذا بدأت حرب من نوع جديد«، ملمحاً إلى انها قد تنجح الآن في ظل ظروف مهيأة لأن المناخ الإقليمي والمناخ الدولي قد تغيّر.
أما جورج حبش الذي يقر »بواقع الحال«، ويكاد يبكي وهو يستعرض ما أصاب الأمة عموماً وقضية فلسطين خصوصاً، فإنه ما زال يأمل بحركة شعبية تنتظم فيها الأجيال الجديدة لمواجهة هذا المشروع الصهيوني الذي يهددها في حياتها فوق أرضها، وما زال يراهن على »قوى التغيير«، سواء أكانت إسلامية أم ماركسية أم وطنية، وإن أقر بأن تجربة النضال القومي عجزت عن تحقيق ما وعدت به.
لا يدعو هيكل الى الاستسلام، وإنما الى تفهم الظروف والتحولات التي غيّرت العالم، وستغيّره غداً أكثر.
ويحاول حبش الخروج من البديهيات إلى »السياسة«، لكنه يرفض أن يغادر أحلامه، وأن يسلّم للأمر الواقع وكأنه ليس عليه بعد الآن إلا أن يتأمل ويراقب من بعيد (كما يوهمنا هيكل أنه يفعل)..
* * *
فرصة للتأمل، هي، أن تكون مع رجلين بهذا الغنى في التجربة.
لا تشيب التجارب كما الرجال، ولا تذهب إلى التقاعد كما يذهب من تعجزهم السنون عن الفعل.
هل ذهب هدراً كل ما كان قد تحقق فعلاً، وهل ما نشهده هو محاولة لاستئصال إرادة الأمة وقدرتها على الفعل؟!
هل نسلِّم بنجاح المشروع الصهيوني واندحار المشروع القومي، ثم لا يكون أمامنا غير التواؤم مع الواقع الجديد، والتسليم »للقوى القاهرة« فنتركها تصطنع لنا حياتنا بما يتناسب مع مخططاتها لغدها في أرضنا؟!
هل ننتظم في طابور أصحاب التجارب الفاشلة متعزين بأن مَن هم أقوى منا وأعظم قدرة، كالاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي، قد سقطوا عندما عجزوا عن بناء مجتمعات قادرة على المنافسة والمواجهة والتحدي، بالديموقراطية والانتاج والأخذ بأسباب التقدم وفهم روح العصر؟!
مرهق هو الشعور بالهزيمة، وساحق هو الشعور بالعجز.
ومن الصعب التسليم بأنه لا مجال للإفلات من النهاية المحتومة، وانطواء الأحلام والآمال لأنها »نهاية عصر«، ولأننا لم نؤهل أنفسنا لدخول »العصر الجديد«.
تطغى برودة الحياد على لهجة هيكل وهو يحاول إقناعك بصلابة الوقائع التي تواجهك، ولكنك تستشف حزناً عميقاً في العينين اللتين طالما شهدتا أعلام النجاح وحتى النصر تخفق في الأفق العربي.
وتقنع نفسك بأنه إنما يحرّضك حتى وهو يبيّن لك مدى الصعوبة، ويمنيك بشرف المحاولة الشجاعة وهو ينبهك إلى خطورة ما يجب أن تستعد لمواجهته.
أما إيمان جورج حبش فيأخذك إلى الخجل وأنت تضبط نفسك وقد ملّت إلى الاستكانة وإلى »ترك الأمر لمن بعدك«… كأنما تضيف إلى صعوبة المهمة أثقال عجزك أو جبنك أو ربما استسلامك بغير قتال، يأساً من القتال، أو لتعذر وجود ميدان للقتال.
* * *
رجلان من جيل الصلابة والمواجهة وتأكيد القدرة وتذوّق طعم النصر.
لقد عاشا في موقعين متباعدين، وخاض كل منهما تجربة مختلفة، لكنهما دخلا متفرقين في مواجهات قاسية مع نظام أو أنظمة افترضا أنهما قريبان منها، وربما شعرا في حالات معينة وكأن واحدهما »متورّط« أكثر مما يجب مع واحد منها أو مع بعضها..
وهما يختلفان في التحليل والاستنتاج، سواء اتصل الأمر بالماضي أم بالحاضر، لكن هذا لا ينفي أنهما يشتركان، كل بأسلوبه، في التحريض على مقاومة الأمر الواقع، والاستعداد لمواجهة الأصعب، وعدم الاستسلام بالإرادة لما يقرَّر لنا.
ولعل من بين دروسهما المستفادة، على اختلاف التجربة، ضرورة أن يكون الإنسان العربي هو الأساس في المواجهة. ولكي يكون فلا بد من »الاعتراف« به ومن أن يكون شريكاً في القرار، بل منبعه ومصدره.
شكراً محمد حسنين هيكل وجورج حبش: لقد أعدتما شيئاً من الاعتبار إلى حوار كاد أن يصبح نوعاً من »الهلوسة« أو الترداد الممجوج لتعابير من عهد مضى، وكاد أن يقطعه اليأس فيحوّله إلى »نشيج داخلي« ونعي مسبَّق للذات.
شكراً على تذكيرنا بما كدنا ننساه مما نحتاجه غداً بقدر ما احتجناه بالأمس وأكثر!
طلال سلمان

Exit mobile version