طلال سلمان

حانت لحظة الرحيل

حانت لحظة الرحيل. هبوا واقفين ومصرين على أن أستمر جالسا في مقعدي. اقتربوا فلمحت دمعة محبوسة في عين حزينة. إنه ولا شك حزن الفراق بعد أسبوعين من متعة خالصة أشبعت بعضا ضئيلا من شوق عنيد صنعته سنين البعاد. لا بد من إنجاز مراسم التوديع في أقل وقت ممكن فالطائرة لن تعذر من يتأخر عن اللحاق بموعدها. لن تنتظر.

تأملته وهو يعبر الحديقة على ضوء خافت. حسبت أنه يمشي متثاقلا  بعد أن سبقته زوجته ويدها ممسكة بيد ابنهما الشاب. حسبت أيضا أنني في حاجة لأعود من خلف زجاج نافذتي لأجلس على مقعدي فقدماي انهكتهما نفس هي نفسها منهكة وجسد نالت من كفاءته آلام عظام الظهر والأسنان اجتمعت في وقت واحد قبل وخلال فسحة الزيارة. جلست أتأمل في خاطر فاجأني عند النافذة. خيل لي أنني أرى من وراء الزجاج طيف أمه واقفة على شرفة شقتنا بالمهندسين وكأنها تحاول أن تقول كلاما لن يسمعه ابنها ولا زوجته أو ابنهما المرافق لهما ولا ابنهما الذي سبقهم فسافر قبل موعد سفرهم بيومين.. لن يسمعه غيري. وفي الواقع لم أكن في حاجة لأن أسمعه. فقد حفظته حرفا حرفا منذ يوم سمعتها تنطق به. كان اليوم يوم سفره للخارج بعد تخرجه في بعثة قد تستغرق سنوات. قالت، وهي تبكي ونادرا ما رأيتها تبكي أمام أحد، أنت الآن تحرمني من ابني. للأسف تركتك تشجعه. كنت أظن أنك سوف تضعف في نهاية الأمر وتقنعه بأن لا يرحل.

كانت في الثامنة عشرة عندما حملت به وركبت به ومعي من نيودلهي طائرة إلى كلكتا وهناك قضينا ليلة مرعبة. في اليوم التالي كنا على متن طائرة أكبر حجما نقلتنا إلى بانجكوك وهناك تكالب علينا الناموس فلم ننم طوال الليلتين اللتين قضيناهما في العاصمة السيامية. وفي فجر الليلة الثانية أخذنا طائرة إلى هونج كونج، ومن هونج كونج ركبنا القطار إلى  كانتون في أقصى جنوب الصين. قضينا في هذه المدينة ليلة لم تتوقف فيها صفارات البواخر والصنادل العملاقة عن إطلاق مختلف أنواع الضجيج والصخب. قرب الشروق كنا في طائرة لعلها الأقل حجما وسعة وسرعة وطاقما بين كل طائرات الركاب التي أقلتني في حياتي. في النهاية وصلنا العاصمة بكين في أقصى شمال الصين بعد أسبوع من السفر بالطائرات وآخرها أسوأها وأبطأها وأكثرها صعودا وهبوطا. وصلنا الفندق وثلاثتنا، أنا وزوجتي وجنين في بطنها نعاني من الآلام أعنفها وأكثرها تنوعا.

كنت في الثالثة وعشرين من عمري وكانت في التاسعة عشرة عندما أنجبنا أول أطفالنا. كنا محظوظين بإقامتنا في الصين خلال هذه الفترة الحرجة من حياة أي زوجين. فمن ناحية اختارت حرم السفير أن تنصب نفسها والدة لزوجتي ترعاها مع رضيعها ومن ناحية أخرى اختارت وزارة الخارجية الصينية لخدمتنا أكفأ طباخ وأفضل مربية أطفال وأحسن مساعدة تنظيف للعمل في شقتنا التي عجلوا باختيارها لسكنانا متجاوزين عديد الإجراءات البيروقراطية وأسبقيات الحجز. كنا كبعثة دبلوماسية وللحق نحتل مكانة سياسية متميزة والفضل يعود بعضه ولا شك إلى العلاقة الوطيدة التي نسج خيوطها النظام الحاكم في مصر مع الصين منذ التقى قادة البلدين في باندونج. بعض آخر من الفضل يعود إلى اللواء حسن رجب سفير مصر الذي استطاع بأنشطته المتنوعة ومنها تعلم اللغة الصينية وسمعته العلمية التي سبقته كمخترع لبوصلة بحرية تحمل اسمه (بوصلة لاجابو) أن يحصل لنفسه وللسفارة على احترام وتقدير المسئولين والأكاديميين الصينيين.

استمر وقوفي خلف زجاج النافذة رغم اختفائهم عن نظري، واستمر التأمل. فكرت كيف استطاع هذا الابن أن يكون دائما في مقدم اهتماماتنا وانشغالاتنا. حكيت كيف جعلنا نتألم، والأم بخاصة، وما يزال جنينا في بطنها خلال رحلتنا إلى الصين، وكيف خلع قلوبنا ونحن نرميه في منتصف الليل من طائرتنا المحترقة لارتطامها بالحقل الموازي لمهبطها في مطار بومباي ولم يزل رضيعا. وكيف تسبب لأمه وهو طفل في الخامسة في خلاف مع طاقم طائرة مصر للطيران المتوجهة من روما إلى القاهرة عندما اكتشفت المضيفة أنه فكك بأصابعه الرفيعة كافة المسامير المطلة عليه من ظهر المقعد الأمامي ومساند المقعد المربوط به. وكيف تسبب في جلبة وحال تعبئة في مطار باريس عندما غاب وهو ابن التاسعة عن أمه وشقيقته الأصغر وكادت الطائرة ترحل لتعثر عليه شرطة المطار في دورة مياه في الطابق السفلي يلعب برغاوي الصابون.

هي نفسها الأم التي كانت تنهض من فراشها بعد منتصف الليل لتتأكد من أنه، وهو طالب بالثانوي ثم بالجامعة، نائم في فراشه أو جالس يدرس على مكتبه ولم يستجب لنداءات الأصحاب والصاحبات الصادرة من الشارع تدعوه لنزهة أو سهرة من نوع أو آخر. وهي الأم التي بلغها من شرطة الإسكندرية أن ابنها الطالب بطب القاهرة اصطدم بطفل أفلت من يد أبيه وجرى فجأة من الرصيف إلى وسط الكورنيش ولم يتمكن ابنها الشاب قائد السيارة من تفاديه. ليلتها ولليالي تالية قضيتها مع ابني المحبوس في قسم شرطة المنتزة على ذمة التحقيق، بينما توجهت الأم إلى المستشفى حيث يرقد الطفل وقضت هناك نفس عدد الليالي التي قضيتها أنا مع ابننا في قسم الشرطة. لم نعد إلى منزلنا إلا بعد أن أعلنت المستشفى شفاء الطفل وعاد مع أهله إلى بيته ومعهم زوجتي مدعوة لترتاح من عناء الإقامة الطويلة بالمستشفى ودون نوم ثم اصطحبوها للمعمورة حيث كنا في انتظارها.

هي نفس الأم التي، بعد مرور أكثر من ست سنوات على حادث الكورنيش، وقفت في شرفة شقتنا بالمهندسين تودع ابنها وقد صار رجلا صاحب قرار السفر للعمل في مستشفى بالخليج لتكوين مبلغ من المال يسهم به في تكاليف الدراسة في أدنبره. قدرت، وأفلحت في التقدير، أن ابنها لن يعود إلا زائرا. ظلت إلى آخر أيامها مقتنعة بمسئوليتي المباشرة عن اتخاذه قرار الرحيل. كنت متهما بأنني أقف وراء اقتناعه بالطب مهنة له واقتناع أخته بالهندسة مهنة لها. وراء هذا الاتهام بعض الصحة. صحيح أنني لم أحرض لصالح الطب والهندسة ولكني حرضت أولادي الثلاثة ضد مهنة السياسة أو حتى الاهتمام بها.

راح ظني على امتداد حياتي إلى حد الاعتقاد أنني نجحت في إبعادهم عن الاهتمام بالسياسة حتى وقع خلال الشهر الأخير اجتماع العائلة. كنا هناك الجد والأبناء وعديد الأحفاد، منهم من يعمل أو يدرس في أوروبا ومنهم من يدرس أو يعمل في أمريكا ومنهم من يتعلم اللغات بمدارس مصرية ومنهم من ولدت قبل أيام. لا أذكر أنهم خلال هذه الإجازة الطويلة ناقشوا أمرا غير حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وتواطؤ دول الغرب معها وسمو أخلاق الأفارقة عند التعامل مع قضية الإبادة وارتباك العرب أو انحدار أداء أغلبهم خلال الأزمة برمتها.

هيمنت السياسة على أيام الاجتماع العائلي وأثبتت أولويتها على سائر الاهتمامات. وفي نهايتها سافر الابن وعائلته على وعد منه أن يدرس فكرة أن يتقاعد في مصر،  فنكون قد لبينا رغبة أمه ولو وهي غائبة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version