طلال سلمان

»جيش سلام« اسرائيلي مفاوضا

لم يتأخر إيهود باراك في تمزيق ثوب »الحمامة« الضيق الذي استعاره خلال الحملة الانتخابية، لتعذر المزايدة في التطرف على منافسه آنذاك بنيامين نتنياهو، وها هو الآن يستعيد صورته الأصلية كبطل حروب إسرائيل الممتدة والمتلاحقة، واعداً بأن يكسب أيضاً، وبالقوة، الحرب الجديدة تحت لافتة »السلام«، طالما أن التمويه ضروري لخداع العالم وتحقيق… الانتصار الأخير!
… وبعدما اطمأن إلى أن معظم العرب قد أسقطوا خيار المواجهة (فكيف بالحرب!!) من حسابهم، دخل واشنطن على حصانه، وباشر منها وفيها فرض شروطه، وأولها أن تخرج من دور الرعاية المدعى، وأن تسقط دور »الشريك« و»الوسيط النزيه« مكتفية بدور »المراقب« أو »المسهِّل« وهو دور يتراوح بين »القواد« و»البواب« الذي يأخذ منك السيارة عند الوصول ويعيدها إليك مع انتهاء الجلسة!
كل المؤشرات تدل على أنه نجح في إرهاب الرئيس الأميركي بيل كلينتون، إلى حد إخراجه من ادعاءاته السابقة جميعا، ومن أبسط واجباته كشاهد على المفاوضات السابقة، وما تناولته وأين توقفت ولماذا، ومن أين يجب بالتالي أن تستأنف، وما مصير »الوديعة« التي في عهدته، والتي استأمنه عليها السوريون في انتظار توفر ظرف مناسب لاستكمال ما كانوا بصدده في بدايات العام 1996.
بين تلك المؤشرات أن كلينتون قد »امتنع« عن الاتصال بالرئيس السوري حافظ الأسد لإبلاغه نتائج المحادثات المطولة التي امتدت بينه وبين باراك لمدة 12 ساعة، في جو حميم دائماً، مفضلاً وبحسب »نصيحة« ضيفه أن يؤخر الاتصال، وأن يلغي طابع الاستعجال والاهتمام الشخصي، فيكتفي بأن يرسل إليه كتابة »رأيه« في ما يجب أن تقوم به دمشق… للتلاقي!
وكان المضمون الفعلي لهذه الرسالة قد وصل قبل إرسالها، وذلك عبر ما حصلت عليه إسرائيل باراك من مساعدات عسكرية هائلة، بينها 50 من أحدث الطائرات الحربية، وعدد غير محدَّد من الحوامات القلاع، وصفقة صواريخ مضادة للصواريخ، وإجمالاً كل ما يحقق لها أن تكون »جيش السلام« الإسرائيلي في »منطقة الشرق الأوسط!
كانت الصفقة أبلغ بمضمونها من الرسالة الباردة.
ولعل هذا »المضمون« تحديداً كان بين أسباب امتناع الرئيس الأسد عن المشاركة شخصياً في جنازة الملك المغربي محمد الخامس، التي رأى فيها وكان من حقه أن يرى فيها كميناً مدبراً لإحراجه فإخراجه…
بعد ذلك توالت هجمات باراك على الجبهات جميعاً: تنصل تماماً من كل تعهداته الانتخابية (وما بعد ترئيسه) حول العودة إلى المفاوضات مع سوريا من حيث توقفت، وأسقط من أحاديثه أي ذكر لحدود 4 حزيران 1967، بل اكتست كلماته نبرة تهديد واضح،
ثم تنصل من حديثه عن الانسحاب من لبنان خلال عام واحد، معلناً أنه »لن يرمي نفسه عن السطح« إذا تأخر موعد الانسحاب عن حزيران المقبل،
… وازدرى بدور الحاضنة المصرية للموقف الفلسطيني، فقفز من فوقه موجهاً مجموعة من الإهانات الجارحة إلى »السلطة الفلسطينية«، ومنسحباً من جميع تعهداته حول تنفيذ البنود المعلقة من اتفاق واي ريفر البائس،
ومن أسف أنه مع كل تراجع عن تعهد سابق كان يلقى مَن يسعى إليه من بين القادة العرب »مصافحاً« و»مبايعاً« بزعامة المنطقة!
آخر الهجمات كانت على موسكو، وقد دخلها بسيف واشنطن، فالقروض منها والمساعدات والهبات، وهي لا يمكن أن تحصل عليها إلا بتوقيع »الشريك المفوض« إيهود باراك… ثم أنها لن تنال دولاراً واحداً إذا ما أعادت فتح مخازن سلاحها أمام الجيش السوري!
لا دور جدياً لواشنطن، في المفاوضات، ولكن لا بأس من دور لروسيا لأنه سيظل شكلياً ولن تستطيع جعله دوراً فاعلاً لقصورها الذاتي، ولأنها مسترهنة كلياً بلقمة عيشها..
من هنا يمكن فهم التهديدات المباشرة التي أطلقها بالأمس مساعد باراك (في وزارة الدفاع) والمسؤول عن »استراتيجية بيته«، الجنرال احتياط إسرائيل طال ضد لبنان وجيشه على وجه التحديد، وضد سوريا وحقها في العودة إلى حدود 4 حزيران 1967 أي إلى شاطئ بحيرة طبريا.
لقد أسقطت إسرائيل أي مفهوم ل»السلام« متحدر من صلب مؤتمر مدريد، كما أسقطت من قبل المفاهيم المتحدرة من صلب القرارات الدولية.
إنها الآن قوة فرض وليست طرفاً في تفاوض،
إنها تفترض أنها تواجه سوريا ولبنان من دون جميع العرب،
وتفترض أنها تستقوي علينا بالعالم كله، الذي تتصرف وكأنها ضمنت بعد واشنطن إقراره بمفهومها للحل: بواسطة »جيش السلام« وبقوته، ليس إلا.
فلنستعد لأقسى الحروب..
وليلتفت اللبنانيون، مسؤولين ومواطنين، الى مصيرهم بدلاً من الانشغال بالتفاصيل المملة لحكايات خصومات تقع كلها خارج السياسة، وخارج الاهتمام الجدي بالشأن الوطني والقومي.
طلال سلمان

Exit mobile version