طلال سلمان

جولة في مطاعم الطبق الأوحد

تزهو الدول وبخاصة المتقدم منها بمطاعمها الأشهر. لكل مطعم من هذه المطاعم قائمة مطبوعة على ورق فاخر بأسماء وصفات الأطباق التي يقدمها لزبائنه، قائمة يتجاوز عدد صفحاتها المصورة بالألوان على ورق فاخر عدد صفحات مجموعة قصص أو لوحات فنية تتنافس على الفوز بجائزة. زرت بعضا من هذه المطاعم خلال رحلاتي حول العالم، مدعوا في معظم الأحيان وصاحب الدعوة في بعضها. لا أنكر فضل هذه الزيارات على تغيرات ملحوظة حدثت لذوقي ولكني أعترف أنها لم تصب بالضرر الشديد تفضيلي الثابت لزيارات، وإن تباعدت، لمطاعم اشتهرت بتخصصها في تقديم طبق أوحد، وعندها تنتفي حاجتها وحاجة زبائنها إلى قائمة تنصح بأطباق بديلة أو مكملة. ومع ذلك ولأسباب تتعلق بالمنافسة وسعيا وراء زبون متجدد الذوق وتماشيا مع العصر لجأ أصحاب هذه المطاعم إلى صنع قائمة تقدم محتوى الطبق الأوحد في أوضاع مختلفة ومتعددة أو مزودة ببهارات وسمنة وزيوت غير عادية النوع والكمية. المهم الاحتفاظ بزبون لا يمل.

***

أذكر بكل الامتنان أنني عشت مرحلة شهدت رواج طبق الفول المدمس أو صحن الكشري يقدم لزبون متعجل مستعد لتناول وجبته واقفا أمام عربة يخدم عليها صاحبها ومعه صبي لغسل الأطباق والصحون المستعملة بإغراقها لثوان في صفيحة مياه. ولكني أذكر متعة من أيام الطفولة عندما كنا على الطريق إلى المدرسة نقف أمام عربة البليلة أو الحمص المغلي بتوصية وقرش من أم لم تتح لها فرصة إعداد الفطور المناسب لإبنها سواء كان صحن العصيدة الساخنة المشبعة بالعسل الأسود أو العسل الأبيض،  أو كان صحن الشعرية المبللة بالحليب تزينها رشات من السكر البودرة، أو كان صحن حلاوة الملعقة (سد الحنك) وهي الدقيق المحمر مع السمن البلدي والمُحلى بقطرات من محلول الماء مع السكر، أو كان سندويتش الرغيف الفينو أبو تعريفة المحشو بالقشدة الطازجة المتكونة بوفرة على حصتنا الصباحية من  الحليب و”مرشوش” عليها السكر.

نضجنا في العمر ونضجت معنا تجارة الفول المدمس بعد أن دخلت عليه متغيرات أو مستجدات تحت أسماء شتى مثل الفول بالسمن البلدي وبالتقلية وبالبيض. نضجت أيضا تجارة الكشري حتى صارت لكل منهما مطاعم مؤثثة تأثيثا فاخرا وانتشرت فروعها في أحياء تسكنها الطبقة الوسطى. جدير بالذكر أنها هي الأخرى تخصصت لنوع واحد من الأكلات ولم تضف إلا صحون الحلو وفي الغالب لم تخرج عن المهلبية والأرز المطبوخ مع الحليب.

***

خرجت من مصر إلى الهند لأسكن في فندق بسيط للغاية في دلهي القديمة. قضيت في هذا الفندق أياما معدودة كانت رغم صعوبتها فرصة للتعرف عن قرب على طرق حياة الطبقات غير الميسورة في المجتمع الهندي. أتصور أن معظم هذه الطرق زالت أو تغيرت مع التحول الهائل في الاقتصاد الهندي ليصير الاقتصاد الرابع من حيث الحجم في العالم المعاصر. لا مبالغة في القول أنني عشت فترة أعتقد أن أرصفة الهند ما هي إلا قواعد متكاملة تعمل ليل نهار في خدمة المواطن الهندي البسيط، وقتذاك. فوق تلك الأرصفة أقام الطباخون مطابخهم يقلون بالزيت معجوناتهم الوطنية الحارة وأنواع من الخضراوت المطبوخة في صلصة الكاري الحارة أيضا، وبعضهم يعد الدجاج الحار هو الآخر للشواء وقد اكتسي جلده باللون الأحمر، لون الفلفل الأحمر الذي قضت فيه الدجاجات ليلة ما قبل الشواء غاطسة في مزيج من المساحيق الفريدة متعددة الألوان والحرارة. إنها أكلة التاندوري الشهيرة ولها الآن مطاعمها المتخصصة في الهند وفي العالم حيثما أقام المليونير أوبروي فنادقه ومطاعمه.

سافرت وعدت إلى المكان نفسه بعد مرور حوالي عشرين عاما ومعي وفد مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام بقيادة هيكل وبصحبة الزملاء محمد سيد أحمد وسميح صادق وحمدي فؤاد. الأرصفة ما تزال هناك ويحتلها عدد أقل من العيادات البدائية والورش اليدوية، الجديد عدد أكبر من مطاعم  التاندوري. كان بودي لو أكلوا كما أكلت قبل عشرين سنة من أيدي طباخي الأرصفة وليس في مطاعم مكيفة الهواء.

كنت في الصين وبالذات في بكين مرتين. وفي المرتين دُعيت مرات لتناول العشاء في مطعم تخصص في تحضير وشواء البط البكيني. لا تختلف أساليب تربية وتسمين البطة في الصين عن الأساليب “الوحشية” المتبعة في فرنسا. إلا أنها تختلف في الهدف. ففي الصين يجري تسمين البطة داخل قفص بحجمها وهي صغيرة ولا تغادره مهما طال الوقت لينتهي كل اللحم فيها إلى دهون تلتصق بجلد البطة وهذا يخضع للشواء في حضور الزبائن، يلتهمونه ساخنا. أما في فرنسا فتسمن البطة من أجل كبدها الذي ينتفخ ويصبح جاهزا ليتحول إلى ما يشبه المعجون ويباع بأرقام بدت لنا فلكية. أذكر أنه في الحالتين لم تسمح دخولنا المتواضعة بدعوة ضيوفنا لتناول أي من الأكلتين. كنا في غالب الزيارات ضيوفا على وزارة الخارجية في الدولة المعنية.

***

على ذكر فرنسا أذكر أن أحمد ماهر السيد المستشار بالسفارة المصرية في باريس، وجدير بالتنويه أنه كان أول دفعتنا، دفعة عام 1957، كملحقين في وزارة الخارجية، دعانا، هيكل وأنا، لتناول غداء مبهر قوامه عنصر أوحد اشتهر به المطبخ الفرنسي وتخصصت له مطاعم فاخرة تقدمه لزبائن وقوفا وتبدع في تقديمه لزبائن حجزوا أماكنهم قبل أيام، أما العنصر الأوحد  فهو الذي حمل منذ القرن الثالث عشر في مسقط رأسه بمقاطعة بريتاني اسم “الكريب” ثم سمي أسماء شتى في ثقافات مطابخ أخرى.

***

أذكر سنوات رائعة قضيتها في روما، كان يمكن أن تكون أجمل وأروع لو سمحت مرتباتنا الشهرية، ولكنها لم تسمح. كان الظن السائد بيننا كغرباء أن صحن المكرونة، أي صحن “الباستا” الإيطالية في روما وإن اختلف شكلها ونوعها عن صحن الباستا في كالابريا أو في بولونيا فالمذاق في النهاية واحد أو متقارب. كان ظنا خائبا، بدليل أن مطعما في روما تخصص في تقديم صحن من المكرونة العريضة نوعا ما والمعروفة بالـ “فيتوتشيني”، أبدع في صنعه حتى صار “الفريدو” وقتها مطعما مدرجا على قائمة المنشأت السياحية في إيطاليا. حاولنا في بيوتنا تقليد صحن الفريدو وفشلنا وحاولت مطاعم كثيرة في إيطاليا وخارجها وفشلت. جربته في نيويورك وسنتياجو ومونتريال ولندن ومارسيليا وكانت في أغلبها تجارب فاشلة.

***

لا يجوز أن نأتي على ذكر مطاعم النوع الأوحد ولا أحكي عن تجربتي في الأرجنتين. أّذكر أن في يوم وصولنا إلى بيونس آيرس دعانا قريب أرجنتيني لزوجتي وعائلته لتناول الغداء في أحد أهم وأكبر المطاعم المتخصصة في تقديم اللحم المشوي. أذكره جيدا واسمه “لا استانسيا”. أثار انتباهي وإعجابي هندسة وديكور وسعة المطعم إذ كانت جميع حوائطه وأرضيته من الخشب الخالص وتستقبلنا نوافذه الخارجية ببقرة منزوعة الجلد وممتشقة الطول وقوفا  وإلى جانبها حمل وديع هو الآخر منزوع الصوف وممددا وقوفا. عدت إلى العاصمة الأرجنتينية بعد سنوات قبلت خلالها دعوة على غداء في المطعم رقم مائة على كورنيش العاصمة المتمدد إلى جانب نهر لا بلاتا. لم يكن  الكورنيش موجودا خلال إقامتي المطولة  قبل عشرين سنة في هذه المدينة الجميلة ولا كان موجودا هذا الصف الطويل من مطاعم بدون أسماء ولكن لكل منها رقم ولا تقدم إلا الشواء.

***

استهلكت معظم المساحة المقررة لي في هذه الصفحة ولم آت بعد على ذكر معظم تجاربي مع مطاعم النوع الأوحد من الطعام في كينيا وجزر القمور وعلى شواطئ موزمبيق وفي التلال المحيطة بمدينة فيينا وأزقة تونس والدار البيضاء وزنقاتهما وفوق قوارب في هونج كونج وبانجكوك.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version