طلال سلمان

جولة في حالة عرب مشرقا ومغربا في عام احتلال اميركي عراق

تتوالى التداعيات والتحولات في المشهد العربي، مشرقاً ومغرباً، بوتيرة متسارعة بحيث يمكن الافتراض أن الصورة العامة لهذه المنطقة من العالم ستكون مع إطلالة العام 2004 مختلفة جداً عن تلك التي عرفها لها، والتي ألفتها شعوبها، حتى لو لم تكن محبّبة إليها وقريبة من آمالها الوطنية.
بات صعباً، الآن، الحديث عن »وطن عربي واحد«، أو عن »وحدة في الهدف« فضلاً عن »وحدة المصير«، بل بات متعذراً الحديث عن »التضامن العربي« حيث لم يعد »العدو« واحداً، بل ان »العدو« لبعض العرب غدا »صديقاً« وغدا »شريكاً« لبعضهم الآخر.
وبمعزل عن العاطفة أو الرغبة، فإن واقع الأمر أن »الأميركي« بات طرفاً مقرراً في معظم الشؤون العربية، بغير اعتراض تقريباً، وأن »الإسرائيلي« ومن موقع الشريك الاستراتيجي للأميركي بات يتمتع بحق »النقض«، ولم يعد بوسع أي طرف عربي أن يتجاهله أو أن يحاول تجاوزه في محاولة بناء علاقة مباشرة مع الإدارة الأميركية في واشنطن… وهي مصدر القرار بالوجود والعدم!
أما »جامعة الدول العربية« فتبدو مشلولة، بل وممنوعة أو معطلة عن الفعل، برغم كل محاولات أمينها العام، وابتكاراته لتبرير دورها ومن ثم دوره… وها هو »ضيف شرف« لا يلقى الترحيب المفترض في الكويت، حيث تعقد قمة مجلس التعاون الخليجي، في حين أن وفداً كبيراً من الجامعة يزور بغداد بعد وساطات وتنازلات محاولاً أن يستنقذ بالصورة دوراً عملياً يتعذر على هذه المؤسسة العريقة أن تمارسه، ليس فقط لأنها »مفلسة« بل أساساً لأنها »معطلة بقرار«، وبين بنود هذا القرار أن تظل مفلسة ومهمشة ومؤجل إعلان وفاتها لأن أحداً لا يريد تحمّل هذه المسؤولية.
في الوقت ذاته فإن معمر القذافي يفاجئ العالم، مرة أخرى، بقرار فريد في بابه، إذ يندفع في مغامرة محسوبة إلى مباغتة من كانوا في موقع العداء بإعلان التخلي عن البرنامج الخاص بإنتاج السلاح النووي، ويفتح أبواب بلاده أمام مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ليتثبتوا من أن قراره بالمواجهة صار من الماضي، وأنه الآن يريد الانصراف إلى تنمية ليبيا وتمكين شعبها من اللحاق بالعصر، متجاوزاً إيران في مسعاها إلى التبرؤ من »النووي«، مع أن ذلك المسعى لم يشفع لطهران لدى إسرائيل فجددت تهديدها بتدمير المفاعل الإيراني مباشرة.
وكان طبيعياً أن يستقبل الغرب جميعاً، وواشنطن على رأسه، هذا القرار الليبي بالترحاب، وإن كانت الإدارة الأميركية المزهوة بالانتصار الجديد ما زالت تحاول ابتزاز القذافي المزيد من الضمانات لمصالحها المتجددة في بلاده الغنية، متجاوزة الضمانات التي توفرها بريطانيا بلير التي يبدو أنها تولت رعاية هذا التحول الليبي المؤثر وتسويقه، كما سرّعت عودتها إلى طرابلس، في مجال الاستثمار كما في مجال التعليم، بغير أن تنسى النفط والتجارة.
ولقد حاول الرئيس المصري حسني مبارك أن يستدرك ما أسقط سهواً من حيثيات القرار الليبي المباغت، فذكر بحقيقة أن إسرائيل تبقى الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك ترسانة مخيفة من السلاح النووي، لم يسبق أن احتاجتها في الماضي وليس في معطيات الحاضر (والمستقبل القريب) ما سيلجئها إليها… لكن هذا التذكير يظل أقرب إلى القيام بواجب منه إلى المطلب الذي لا تراجع عنه.
* * *
هي إذن القمة الرابعة والعشرون لدول مجلس التعاون الخليجي. وهي القمة الأولى بعد إسقاط صدام حسين بالاحتلال الأميركي للعراق عسكرياً، (وبعد الاطمئنان إلى سقوطه شخصياً في الأسر، وإلى تقديمه للمحاكمة، في غد قريب، وإن كان الجدل مفتوحاً بعد حول كيف وأين وبمن إلخ…).
على أن المشاركين في هذه القمة لا يستشعرون الكثير من البهجة، ولا هم الآن أكثر اطمئناناً إلى أمنهم في بلادهم، ومن هنا فإن العنوان اليتيم لهذه القمة هو: »الإرهاب«… والبعض يقرأ هذه الكلمة التي باتت شعاراً للعصر، على أن المعني به هو »أمن نادي الأغنياء« في الجزيرة والخليج.
لقد أسقط الاحتلال الأميركي نظام صدام حسين الذي طالما رعاه أعضاء هذا المجلس الذي أنشأه الخوف من أطماع شاه إيران، ثم عزز الحاجة إليه تفجر إيران بالثورة الإسلامية، مما زاد من حاجة الخليجيين إلى »بطل القادسية« للدفاع عن عروبة تلك المنطقة وأنظمتها، ولو بكلفة باهظة مادياً ومعنوياً.
وعراق اليوم منتهك السيادة بالاحتلال، لا جيش فيه ولا أثر للحرس الجمهوري (الذي ما تزال الكويت تستذكر أياديه السوداء)، اقتصاده مدمر، ومؤسساته خربة، ووحدته مهددة بدعاوى التقسيم العرقي والطائفي والمذهبي.
ثم ان إيران اليوم تسعى بإلحاح، وربما بشيء من التنازلات، إلى إقامة علاقة طيبة بهذه الأنظمة التي كانت تراها بعيون الثورة رديئة أو مرتدة أو رؤوس جسور »للشيطان الأكبر«.
كذلك فإن القوات العسكرية للصديق الكبير، الولايات المتحدة الأميركية، موجودة في كامل هذه المنطقة ذات الرمال الذهبية، وفي مياهها الإقليمية، وكذلك في البحار والمحيطات القريبة… فضلاً عن أن أجهزتها الأمنية الهائلة القدرات تطارد فلول »القاعدة« و»الصداميين« وأنصارهم في كل مكان وزمان…
مع ذلك كله فإن جدول أعمال القمة الخليجية مختزل في كلمة واحدة: الإرهاب… وبالتالي فإن البال يذهب بالمعنى المقصود إلى »الداخل« وليس إلى »الخارج«.
وفي »الداخل« ليس الأميركي، بالضرورة، عنصر أمان واطمئنان، خصوصا انه بارع في الابتزاز في السياسة أساسا وليس في مجال الاقتصاد والأمن فحسب.
الثورة الإسلامية ليست مصدرا للاطمئنان حتى وهي تخلع الشاه الطامع،
وإسقاط صدام حسين بالاحتلال الأميركي لا يبدد المخاطر بل لعله يفاقمها، إذ إن المعارضين والمعترضين على هذه المهانة العظمى تلحق بالعرب والمسلمين قد يتجهون بانتقامهم إلى »الداخل« بافتراض أنه قد تواطأ أو سهّل أو رحّب أو سهّل احتلال أرض الرافدين، أو أنه قد »ارتكب« كل ذلك معاً.
والانتقام المحتمل هو »الإرهاب« المقصود.

على الضفة الأخرى، المغرب العربي، لا تنفع المعالجات السريعة والحقن المنشطة في إعادة بعث الاتحاد المغاربي. إنه في حكم الميت، وإن تأخر نعيه. وفشل الاجتماع الوزاري ليس إلا إعلانا صريحا عن تعذر عقد القمة، التي أعلن المغرب مسبقا غيابه عنها، وبالغت ليبيا فاعتذرت عن عدم استضافتها في دورتها التالية.
ما زال المغرب والجزائر في حالة وقف إطلاق النار. ومن الواضح أن »الهدنة« لن تستقر، ولن تتحول إلى صلح طالما لم تطوِ الجزائر نهائيا ملف الصحراء.
بالمقابل فإن موريتانيا تحمّل ليبيا مسؤولية محاولة الانقلاب الفاشل فيها، وتتهمها بأنها دفعت لزعيم المعارضة مبلغا يزيد قليلا عن نصف مليون دولار… فتصوّر متانة هذا النظام الذي يمكن إسقاطه بمثل هذه الرشوة التي لا يقبلها أي متنفذ في لبنان، مثلا!!
وبطبيعة الحال فإن أيا من »الدول المغاربية« لم يفكر بالجامعة العربية، ولو كوسيط نزيه… وهل يعقل الافتراض أن عمرو موسى مؤهل للنجاح حيث فشل جاك شيراك؟!
أما في السودان حيث يتبدى »العرب« أكثر فأكثر في صورة »المستعمر« و»المحتل«، مع التذكير بأنهم كانوا »تجار العبيد النخاسين«، فإن هذه الدولة التي لم تكلف العرب أكثر من عواطفهم، تبدو الآن مهددة في وحدتها، ككيان سياسي، وفي هويتها الأصلية… وتجري المفاوضات المعقدة بين حكومتها (التي كادت تنكر إسلامها) وبين خصومها »الجنوبيين« في جو من الابتزاز العلني، وتحت الرعاية الأميركية المباشرة، من دون أن يكون لأي طرف عربي، بما في ذلك مصر التي يجيئها سبب حياتها، النيل، عبر السودان، أي رأي أو أي دور في ما يقرر للسودان وفيه، مما سيؤثر قطعا على مصر، في حياة شعبها وليس فقط في أمنه فضلا عن السياسة والاقتصاد وسائر ما هو مشترك بين هؤلاء الأشقاء في »وادي النيل«.
***
في ظل هذا الواقع العربي المولّد لليأس من سيفكر بفلسطين، ومن يجرؤ على نجدة شعبها المقتول على مدار الساعة، المتناقصة بيوته مع كل مطلع شمس، المذبوحة حقوقه وآماله وأحلامه أمام مرأى العالم أجمع؟!
وكيف لا تندفع الحكومة الإسرائيلية بقيادة السفاح أرييل شارون في بناء جدار الفصل العنصري، وفي الشروع ببناء جدار آخر، »لمصادرة« ما تبقى من الأراضي الفلسطينية بحيث يغدو الفلسطينيون بالفعل شعبا لاجئا، بلا أرض، وبلا مستقبل خارج أوهام ما »توحي« به خريطة الطريق التي يمحو الإسرائيليون المزيد من ملامحها (وهي أولية) كل يوم.
آخر عناوين فلسطين: نور الدين عمران (14 سنة) والطفل محمد الأعرج (5 سنوات)…
مع ذلك فشعبها الوحيد، المعزول والمحاصر بالجوع والإرهاب والموت، ما زال يقاتل لحماية وجوده… في انتظار نجدة يتضاءل أمله في أنها ستأتيه أصلا، فضلا عن أن تصل إليه في الوقت المناسب.
في حالات محددة يبدو الاستشهاد هو المصدر الوحيد للأمل، في زمن الانهيار العربي، بالرغبة أحيانا وليس دائما بالاضطرار!

Exit mobile version