طلال سلمان

جولة رعوية في قلب سياسة

بديهي أن يستقبل الشوف البطريرك الماروني الكاردينال صفير بالترحاب وهو يجيئه على طريق الوحدة الوطنية تدعيما للسلم الأهلي وتوكيدا للخروج من ليل الحرب الأهلية التي تحمل فصولها السوداء في الجبل، على وجه التحديد، بصمات الاحتلال الإسرائيلي بعد اجتياح العام 1982، بغير تمويه.
لقد انتهت الحرب حقاً، ومنذ زمن بعيد، وإن كانت استعادة ماضي الصفاء والوئام ما زالت بحاجة إلى مزيد من الجهد والوعي والتسليم بالبديهيات ورسوخ الدولة وانتعاش مؤسساتها باعتبارها الضامن الطبيعي للسلم الأهلي والحاضنة للمجتمع الواحد الموحد بهمومه واحتياجاته وطموحاته إلى مستقبل أفضل.
ومؤكد أن البطريرك الماروني الذي تحول إلى مرجعية شبه سياسية لطائفته صاحبة الدور الكبير في تاريخ لبنان الحديث سيلمس عمق التحولات التي تسببت فيها الأخطاء والمراهنات والمغامرات التي تحطمت على جدار الحقائق المكونة لهذا الوطن الصغير، والتي انتهت بكوارث موجعة على المواطنين جميعا كما على فكرة الوطن.
لم يعد أحد كما كان، ولم يعد أحد حيث كان بالضبط، ولم تعد لغة الماضي تصلح لاستعادته أو لاستنساخ حاضر مشابه، فضلاً عن مستقبل من الطبيعة ذاتها، فالتبدل قد أصاب كل المناطق وكل الفئات إضافة إلى الأعراف والقيم والتقاليد الموروثة. ونشأت بقوة الأمر الواقع »حقائق« ديموغرافية جديدة ومعطيات سياسية مختلفة عن تلك الذكريات الدافئة التي اغتالها الانزلاق إلى الحرب في ما اغتال.
ولقد أجاد وليد جنبلاط في توصيف طبيعة التحولات، فلا مجال بعد لثنائية درزية مسيحية تكون مرتكزا لدولة »لبنان الكبير« الذي قلبه الجبل والباقي »ملحقات«، ولم تعد »الست نظيرة« في دار المختارة، وقد توسعت هذه الدار العريقة فلم يعد حليفها الأول الراحل إميل إده، وإنما باتت منطلقا وقاعدة لحركة سياسية حيوية وواسعة، أفقها وطني شامل، ومداها عربي مفتوح أوله دمشق، ولها دورها المؤثر في حركة النضال القومي عموما وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، على وجه الخصوص، مع التنبّه لأطماعها المعلنة في أرضنا جميعا.
كذلك فقد أكد الأمير طلال أرسلان في دار خلدة البُعد العربي للقاء الوطني، فلبنان ليس جزيرة معزولة، وليس طرفا محايدا في الصراع العربي الإسرائيلي، ولا يمكن إلا أن يكون حليفا ثابتا لسوريا وشقيقا مفتوح القلب والذراعين لكل تعاون معها ومع سائر أخوانه العرب.
ومع التمني بأن تحقق جولة البطريرك الماروني في الشوف هدفها في تعزيز روح الإلفة، فمن الضروري الإشارة إلى أن التجربة التي عاشها الشوفيون بالذات كانت قاسية جدا، وقد تطلّب النسيان والصفح وعودة المهجرين زمنا طويلا نسبيا وجهدا عظيما والكثير الكثير من المال. لكن كل غال يرخص أمام استعادة الوئام وعودة »الأهالي« إلى حقائق حياتهم الأصلية وأبرزها أن الاكتمال وتحقيق الأماني والأهداف المشتركة لا يكون إلا عبر الدولة الواحدة الموحدة وعبر التخلي عن أوهام الثنائية أو المراهنة على العدو أو التشاطر بالتحالف مع الأخ الشقيق لتحقيق غرض سياسي محدود ثم الانقلاب عليه والعودة إلى الرهانات الخاطئة وكأن العالم كله »يشتغل« عندنا.
لقد كان الجبل نموذجا للعيش المشترك، وتجاوز أهله الفروقات في الانتماء الطائفي فصاروا متشابهين ومتكاملين وحتى انقساماتهم كانت تتخذ طابع الحزبية السياسية متجاوزة الانتماء الطائفي والمذهبي، فكان المسيحيون أيضا »جنبلاطيين« و»يزبكيين«، وكان بين الدروز »شماعنة« و»إديون«، وقد سقط ذلك كله حينما نفخ في الغرائز الطائفية واعتمدت أساسا لإعادة بناء الدولة.. خلافا للطبيعة!
إن زيارة البطريرك للشوف يمكن أن تكون حدثا بارزا بقدر ما تؤكد أن الجبل كله، وبأهله جميعا، جزء من كل، وليس »قارة« قائمة بذاتها، وأن لبنان بوقائع حياته جميعا هو بعض أمته، لا ينفصل عنها ولا هي تتخلى عنه، وأن إسرائيل هي عدوه الأول والأخير، كما هي عدو أمته جميعا، وأن الفتنة شر مطلق ولا تخدم غير هذا العدو.
ومؤكد أن البطريرك، كداعية للوحدة، سيكون ضيفا كبيرا ومرحباً به في أي منطقة، من مناطق لبنان، جنوبا وشمالا وبقاعا وعاصمة، فضلاً عن الجبل.
ومؤكد أن هذه الجولة الشوفية ستسرّع في عودة من تمكن عودته من المهجرين، وستنشر مناخا طيبا يتجاوز الجبل إلى سائر أنحاء لبنان، وهذا خبر جيد لعله يخفف من قتامة الوضع الاقتصادي المأزوم والوضع السياسي غير السوي بكل انعكاساته السلبية على الأوضاع الاجتماعية.
بديهي أن البطريرك الماروني هو الآن بين أهله،
ولقد كان مثل هذا الشعور سيغمره لو أنه أكمل جولته »بالحج« إلى الأرض الطيبة التي حررتها إرادة المقاومة ودماء شهدائها الأبرار.
لنقل إنها خطوة أولى على طريق الصح، وعساها تستكمل قريبا بخطوات تثبت المعنى الوطني لهذه الجولة الرعوية.

Exit mobile version