طلال سلمان

جولة داخل هموم عربية من مخاطر ديموقراطية اميركية

تهرب من بيروت خوفاً من الاختناق بأخبار الفضائح السياسية والمالية والاجتماعية، فإذا ما وصلت إلى أي عاصمة عربية كان عليك أن تهرب من الأسئلة »المهينة« عن الطرائف اللبنانية كمثل صراع الرؤساء، والحكومة الميتة التي لا تجد من يدفنها، وصراع حيتان المال حول الهاتف الخلوي الذي قتل صدقية الرقم فضاعت الحقيقة وتاه الناس في غابة من الأرقام المتشابكة تدفعهم نحو يقين واحد: الكل كاذب، والمال العام منهوب!
في أقطار الخليج يسبقونك بالسؤال عن طرائف بيروت كمهرب من التحرّج في الإجابة عن أسئلتك حول أوضاعهم المضطربة أصلاً والتي تتهددها العاصفة الأميركية التي تتخذ من العراق عنواناً بمخاطر مصيرية تطاول العروش وعائلاتها الحاكمة بالنفط والدين بحيث تبدو الفضائح الرئاسية في لبنان لطائف مسلية!
أما في مصر فالهموم الداخلية الثقيلة أصلاً تمنع القدرة على المبادرة في الخارج، حتى لو رغب النظام في الإقدام عليها، وعلى هذا فهو يحاول بذل الجهد في »التهدئة« حيث يستطيع أن يهدئ…
على أن إسرائيل شارون تندفع إلى الحد الدموي الأقصى مستكبرة بالدعم الأميركي المفتوح، ومستعصية على الحوار الجدي، بل هي لا ترد على الدعوة إليه، لا سيما في هذه اللحظة الانتخابية التي يحسم نتائجها التطرف العنصري، والتوغل في »حرب الإبادة الشاملة« ضد الفلسطينيين و»التدمير الشامل« للبيوت والمرافق البسيطة والدكاكين والشجر وبقايا معالم »السلطة«.
لتترك فلسطين، إذن، في عهدة المخابرات، تدير حواراً بين المنظمات، استعداداً لما بعد، بعد سنة، بعد سنتين، بعد ثلاث؟! لا أحد يدري. لكن فلسطين تفتقد الآن »الممثل الشرعي« الحائز على الإجماع… فلا »منظمة التحرير« الباقية كرمز سياسي، هي بعد الإطار الجامع، ولا »السلطة« بمؤسساتها في الداخل المتصلة المنفصلة بتراث »المنظمة« أقله عبر فصيلها الأساسي »حركة فتح«، تستطيع ادعاء التمثيل الحصري للفلسطينيين، ولا منظمات الكفاح المسلح المستجدة، وبالذات »حماس« و»الجهاد الإسلامي«، ترتضي القيادة القديمة وتسلِّم لها بحق الإمرة، خصوصاً أنها مستقلة مالياً عنها، لا تمد يدها إليها بطلب، ومستقلة تنظيمياً وغير ممثلة في »مؤسساتها« بحيث تخشى على »حصتها« من »النواب« و»الوزراء« والمنافع، مشروعة وغير مشروعة.
وأما العراق فلا حوار مع نظامه ولا اتصال… والقطيعة السياسية المستمرة منذ حرب »عاصفة الصحراء«، قبل اثني عشر عاماً، أوجدت جفوة من الصعب تخطيها بزيارة موفد، حتى لو كان رئاسياً، أو بالتلويح بمزيد من المنافع الاقتصادية التي يقول المنطق إن الأميركيين سيكونون الأقدر على تأمينها وضمان استمرارها من حكم مهدد بالخلع نسفاً أو اغتيالاً أو بحرب لا تبقي ولا تذر…
* * *
الشيخ صباح الأحمد الصباح صريح ومباشر، وهو حين يقول: »إن مصدر الخطر في الداخل ولن يجيء من الخارج«، فإنما يعبّر بدقة عن مشاعر أو تقديرات أو تحسّبات مختلف المسؤولين في منطقة الجزيرة والخليج، بدءاً بالسعودية دائماً، وسائر الأقطار العربية، بما فيها تلك البعيدة عن »المستودع النفطي«.
ما لم يقله »نائب الملك« في الكويت أن الإدارة الأميركية إنما لجأت في حربها الجديدة التي تتخذ من النظام العراقي عنواناً، إلى »أسلحة الدمار الشامل« تهدد بها مختلف الأنظمة القائمة في الأرض العربية، الحليفة منها والصديقة و»المحايدة«، حين برّرت الهجوم الكاسح بادعائها أنه إنما يستهدف تحقيق الديموقراطية في هذه المنطقة المخضعة لأنماط من الحكم الاستبدادي المطلق، سواء أكان قوامه الأسر المالكة أو العشائر الحاكمة أو الجيوش المموّهة بشعارات تنتمي إلى عصر مضى.
تكفي جولة بسيطة على »عينة عشوائية« من المسؤولين العرب لتكتشف مدى الرعب الذي استولدته كلمة »الديموقراطية« عندما اتخذتها الإدارة الأميركية شعاراً لحملتها ضد »الإرهاب«، العربي المنشأ الإسلامي العقيدة، في تقديرها.
ذلك أن الكثرة الكاثرة من هذه الأنظمة العربية تعيش حالة أزمة دائمة في علاقاتها مع »شعوبها«، والأخطر أنها تعيش أزمة جدية بل وقابلة للتفجّر في علاقاتها الداخلية (داخل الأسرة أو العشيرة الحاكمة).
لكأنما جاءت لحظة الحقيقة: فلا هي تستطيع أن تستنفر شعوبها للدفاع عنها، وهي التي قمعتها قمعاً دموياً فظيعاً على امتداد دهور حكمها الطويلة، ولا هي تستطيع الآن أن تطلب الحماية من »الصديق الكبير« الذي عاشت بفضل حمايته حتى اليوم، بل ومارست قمعها لشعوبها تحت ناظريه فلم يعترض بل إنه في الغالب الأعم من الحالات قد شجعها للقضاء على »الراديكاليين« من »الشيوعيين« و»الاشتراكيين« و»الديموقراطيين« أعداء النظام الرأسمالي والاقتصاد الحر الخ…
ثم إن معظم هذه الأنظمة قد شاخت، بتقاليدها المنتمية لعصر آخر، والأخطر: برجالها، وهي تعيش أزمة جدية عنوانها انتقال السلطة… وحيث الأمر محسوم للثاني (ولي العهد) فالأمر غير محسوم للثالث (أي ولي العهد لمن سيتسلم السلطة بعد غياب القائم بالأمر اليوم)… مع ملاحظة أن »أفتى« أولياء العهد قد تجاوز السبعين من عمره، وأن الجيل الثالث الذي لا يخفي لا مطامحه ولا ضيق صدره »بالآباء الحاكمين«، قد تجاوز معظم أفراده المؤهلين الخمسين من أعمارهم، بل إن الأبرز من بينهم هو الآن فوق الستين!
سقطت شرعية الحكم القائم تحت راية الدين الحنيف.
بل إن »الإسلام« قد غدا، بمجموعه، مصدراً للخطر، فكيف »بالأصولية« أو الدعوة للرجوع إلى الأصل، واعتماد سنة السلف الصالح، التي يعاملها العالم كله الآن، وبالقيادة الأميركية، وكأنها المصدر الوحيد »للإرهاب«، وهو أخطر »أسلحة الدمار الشامل«.
»الديموقراطية« إذاً في وجه إسلام الأنظمة التي على الشعار الإسلامي قامت ومن الشعار الإسلامي تستمد شرعيتها.
هي مطالبة الآن بالخروج من إسلامها (صحيحاً أو مدعى) إلى الديموقراطية التي طالما قاتلتها باعتبارها مجافية لأصول الدين وتحريضاً للرعية

على الخروج على أولياء الأمر الخ…
لكن ذلك حديث آخر…
* * *
حيثما ذهبت فإن السؤال المضمر أو المعلق والذي يقلق أولياء الأمر هو: ماذا سيفعلون بنا؟! إنهم يتحدثون عن صدام حسين ولكنهم يقصدوننا جميعاً!
والواقع أنك إن أنت استبعدت حكاية أسلحة الدمار الشامل التي »يتهمون« صدام حسين بحيازتها، فإن كل ما يقال في »دكتاتور العراق« إنما ينطبق أو يصيب سائر السلاطين الذين طالما تباهوا بالضمانات التي وفرها ويوفرها لهم الصديق الكبير في واشنطن، الذي طالما ساندهم وغطاهم وحماهم في مواجهاتهم مع شعوبهم الغاضبة أو الثائرة على حرمانها من خيرات بلادها، إضافة إلى حرمانها من حقوقها الطبيعية في التعبير عن رأيها، وعنوانها »الديموقراطية«.
ثم إن هذه الأنظمة قد دفعت معظم ما فاض عن مصاريف السلاطين للصديق الأميركي الكبير (ولصدام حسين من قبل، بطلب من واشنطن): دفعت تكاليف الحرب ضد إيران، ودفعت تكاليف »تحرير الكويت«، ودفعت تكاليف تحرير أفغانستان… ثم كانت ثالثة الأثافي حين صادر »الصديق الكبير« ودائعها المدخرة لديه للأيام الصعبة.
… وها قد جاءت الأيام الصعبة فإذا به يمنع عنهم »مالهم«، ويطالبهم بدفع تكاليف الحرب الجديدة من رصيدهم المتبقي في الأرض كمخزون نفطي… والأدهى أنه يطالبهم أيضاً بالديموقراطية، أي بفتح باب جهنم المحاسبة الشعبية عمّا ضيّعوه من مال الشعب على مباذلهم وقصورهم (قدر جورج بوش أن واحداً منهم قد أنفق ملياري دولار على إجازته في ماربيا، بإسبانيا، الصيف الماضي).
* * *
من الطبيعي ألا تتبقى مساحة في الاهتمام لفلسطين وحرب الإبادة الشاملة التي يشنها السفاح أرييل شارون، والتي تكاد تبلغ ذروتها هذه الأيام، بوصفها استثماراً انتخابياً مربحاً، وأي ربح، فكلما أسال المزيد من الدم الفلسطيني نساءً وأطفالاً وشيوخاً وفتياناً، لا فرق، وكلما هدم المزيد من بيوت الفلسطينيين، انهمر المزيد من الأصوات لمصلحة حكومته المقبلة في صناديق الاقتراع الإسرائيلية… ديموقراطياً، فليس كالدم العربي شهادة للسفاح الإسرائيلي بديموقراطيته.
أما صراعات الرؤساء في لبنان فتبقى في الصدارة، إذ إنها »الحدث الأخطر« في هذه الدنيا »الساكنة« التي لا يجيئها الخطر لا من فوقها ولا من تحتها، لا من أمامها ولا من خلفها، لا من داخلها ولا من خارجها…
أليس صراع الرؤساء تعبيراً عن النضج السياسي وعلامة صحية قاطعة بسلامة الديموقراطية في لبنان؟!
والآن، لنعد إلى غابة الأرقام لعلنا نعرف كم ضاع من مالنا العام، ومن أخذ منه أكثر، ومن هو المحروم من خيراته الوفيرة

Exit mobile version