طلال سلمان

جنيف 1 و2 محاكمة دولية عرب

تكاد السياسة أن تندثر في المنطقة العربية عامة، وفي لبنان خاصة، مخلية المساحة للاشتباك المسلح بين الأنظمة «الأبدية»، ملكية كانت أو جمهورية، وبين معارضيها الذين ضاقت أمامهم المساحة في الداخل ووجدوا من يدعمهم في الخارج، فاشتبكوا مع النظام بالسلاح، مع وعيهم بمخاطر الانزلاق إلى حروب أهلية تدمّر الأوطان، بدولها، وتفتح الباب على مصراعيه أمام التدخل الخارجي.
.. وإذا كانت «الدول» حرة في حركتها في الداخل اللبناني، يتصرف سفراؤها وكأنهم من أهل البيت، يجولون في مختلف أنحاء الوطن الصغير ويلتقون السياسيين عموماً والمسؤولين خصوصاً ويجهرون بآرائهم وبمواقف تمس «السيادة»، بل والكرامة الوطنية أحياناً، ويتدخلون في أدق التفاصيل بذريعة أنهم «حماة للطوائف»، فإن حركة هؤلاء السفراء والموفدين الأجانب مقيّدة بالأصول الديبلوماسية في سائر الدول العربية، بمعزل عن «التوجيهات» بل حتى «الإملاءات».
على أن مؤتمر جنيف «العربي» يمثل، في جانب منه، سقوط جدارة العرب بأن تكون لهم «دول»، و«دول مستقلة» على وجه الخصوص.
بعيداً عن التفاصيل، وهي جارحة إلى حد الإهانة، فإن نظرة ثانية إلى مؤتمر جنيف «العربي»، يستوي في ذلك المؤتمر الأول الذي عُقد قبل ثمانية عشر شهراً، أو الثاني الذي سيعقد بعد ثلاثة أسابيع، تظهره أقرب إلى المحاكمة الدولية للعرب، عموماً، تثبت نقص أهليتهم في أن تكون لهم «دول» يحكمها أبناء من شعبها محققين لها الاستقلال والتقدم على طريق المنعة والرخاء.
إنها ليست محاكمة دولية للنظام السوري وحده، بل هي تمتد لتشمل الأنظمة العربية جميعاً، (فضلاً عن الدول الأجنبية) التي ولغت في دماء الشعب السوري، وأسهمت في تدمير سوريا كوطن لثلاثة وعشرين مليوناً من أهله.
لقد كانت سوريا واحدة من أهم الدول في هذه المنطقة، ولعبت ــــ على امتداد أربعة عقود على الأقل ــــ دوراً محورياً في السياسة العربية، وكان لها وزنها الإقليمي المؤثر، في لبنان بشكل خاص، وفي فلسطين والصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، وكذلك في منطقة الجزيرة والخليج عموماً… هذا إذا ما تجاوزنا دور شعبها في النضال العربي في مختلف ساحاته بدءاً بفلسطين وصولاً إلى قضية الوحدة العربية وانتهاءً بمساندة الجزائر في ثورتها الشعبية العظيمة، فضلاً عن تميّز سوريا بأنها كانت تمنح جنسيتها لأي «عربي» يطلبها.. ولطالما شغل مناصب قيادية عليا فيها، مدنية وعسكرية، مواطنون عرب غير سوريين، بمن في ذلك فلسطينيون لجأوا إليها واستقروا فيها وعاملتهم كأهلها.
وبمعزل عن أخطاء النظام السوري وخطاياه فإن مؤتمر جنيف ــــ 2، الذي يضم في عضويته أنظمة عربية أخرى تعتبر الديموقراطية رجساً من عمل الشيطان والانتخابات كفراً وقيادة النساء للسيارات تجديفاً على العزة الإلهية، هذا فضلاً عن الدول الأوروبية تحت الإمرة الأميركية، سيكشف المستور من غربة العرب عن العصر.
وبالتأكيد فإن جنيف ــــ 2 سيكون بالنسبة للمشاركين من ممثلي الدول العربية فيه أشبه بسوق عكاظ، وربما سيكون أعداء الديموقراطية وحقوق الإنسان الأعظم فصاحة فيه وهم يهاجمون «دكتاتورية النظام السوري» وكأنهم «سويسريون» أو «أميركيون» أو «بريطانيون» رضعوا الإيمان بالديموقراطية من صدور أمهاتهم اللواتي لا يعرفن ــــ كما لا يعرف أزواجهن وأشقاءهن وأبناءهن ــــ معنى «الرأي» أو التظاهرة أو حرية الصحافة وسائر أشكال التعبير عن الموقف، سياسياً كان أم اجتماعياً…
إن المفارقة ستتبدى جلية في جنيف ـــــ 2 بين الآتين لمحاسبة النظام السوري باسم شعبه!!، والآتين لإدانة العرب عموماً بالتخلف ومجافاة حقوق الإنسان، متناسين أنهم كانوا المستعمرين ـ ولحقب طويلة ـ لهذه الأرض العربية ولشعوبها، وقد نهبوا خيراتها، وقسموا البلاد الواحدة إلى «دول» عدة لا تملك في الغالب الأعم مقوّمات وجودها، وزرعوا فيها إسرائيل لتكون «دولة المنطقة» جميعاً، تستنزف مقدراتهم في حروب مفتوحة هم فيها الأضعف وبالتالي فهم المهزومون، مما مكّن للأنظمة العسكرية التي لا تكن الود للديموقراطية والانتخابات وشعارات من نوع «صوت واحد للمواطن الواحد».
إن مؤتمر جنيف ـ 2، كما الأول، سيكون محاكمة دولية للإنسان العربي، وليس فقط لهذا النظام العربي أو ذاك.. والإدانة قاطعة بمجرد انعقاده بطابعه الدولي الجامع الذي يلغي الشعب السوري صاحب الحق بمقاومة النظام والثورة عليه لإسقاط أسباب ظلمه، ويعيّن «هيئة وصاية دولية» على هذا الشعب الذي طالما سجل صفحات بطولية في مقاومة الاستعمار ـ الذي يتصدر الآن منصة القضاء ـ كما في مقاومة الأنظمة التي لا تستحق شرف حكمه.
… والباقي تفاصيل، سواء صدر الحكم بإدانة النظام أم بإدانة معارضيه الذين يأتي بعضهم الأقوى من الجاهلية وإن هم رفعوا رايات إسلامية شوهاء،
الأخطر أن هذه المحاكمة سوف تلحظ جدارة «العرب» بأن تكون لهم «دول» ومستقلة، برغم أنهم قد بذلوا أرواحهم ـ كشعوب ـ من أجل أن تقوم هذه الدول ومن أجل بنائها وتقدمها وحمايتها، من أعدائها في الخارج، ومع ذلك فقد غيّبتهم أنظمة العسف فيها واقتادتهم مخفورين إلى محاكمة دولية تتخذ شعاراً مزوراً مفاده أن «قضاتها» أرحم بها من حكّامهم.

Exit mobile version