طلال سلمان

جنوب برشلونة شمال واشنطن

الطائرات الحربية أسرع طبعù من البيانات أو الوثائق التاريخية، في إيصال رسالة »السلام«، فصواريخ الموت قلما تخطئ العنوان، ولا مجال لأن يخطئ أحد في قراءتها، في حين أن ما تقرّر في برشلونة عليه أن ينتظر العام 2010 حتى يعطي ثماره الكاملة، إن صمدت شجيرته للرياح الشمالية التي لا بدّ ستحاول اقتلاعها قبل أن تتجذَّر.
لا تتوحّد إسرائيل في مناخ سلمي، بل لا بدّ من المواجهة ومن الدم، وأسهل وسيلة للانتصار على »التطرف« في الشارع تكون بأن تتصدّر الحكومة »المتطرفين«، وأن تطلق آلتها الحربية لتغطي على أصوات »المسالمين«، مع الحرص على بقاء هامش يميّزها عن هؤلاء وأولئك، أقله إعلاميù ومن باب مخادعة »الرأي العام العالمي«..
وهكذا فلا بد من أن تهدر المدافع، بينما شيمون بيريز يتلو ويكرّر فعل إيمانه »بالسلام«، ولا بدّ من أن تعود الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى السماء اللبنانية، ولا بدّ من دوي وضحايا وخراب وجثث تؤكد الجدية في عروض »السلام«..، دوي يسمعه الداخل الإسرائيلي أولاً فيطمئن إلى أن حكومته ما تزال »رابينية« وإن غاب عنها رأسها إسحق رابين،
فبين »الاجتياح« السهل في عمّان المهدمة أسوارها بمعول ملكي، و»الشراكة« الصعبة في برشلونة المثقلة بالذكريات الأندلسية، محطة دموية لا يمكن القفز من فوقها وفوق ضحيتها »بطل الحرب، بطل السلام«، ولذا فلا بد من التصرف بسرعة وحماية »المشروع« وتعويض »القائد« بقيادة يتلاقى فيها الأضداد اضطرارù لتأكيد وحدة إسرائيل التي بدت مهددة بالتمزق ومن داخلها، أولاً وأخيرù.
ولقد باشر »الخلفاء المتحدون« في حكومة متعددة الرؤوس، مهماتهم بحيوية واضحة:
إيهود باراك الآتي من الحرب يخلع بزة الجنرال ويحتفظ بلغته وهو يبدأ تدريباته العملية على »الدبلوماسية« بعرض مبهم وملتبس لسلام ما، ليؤكد أنه ليس أقل تعقلاً وحكمة من شيمون بيريز، مع أنه »رابيني« الماضي والمعد نفسه ليكون رابين المستقبل،
وبيريز الآتي من مشروعه الخاص لما بعد السلام يشفع دبلوماسيته وأحلامه عن »الشراكة« في »الشرق الأوسط الجديد« بالغارات والصواريخ والقصف الكثيف، ليؤكد أنه ليس أقل حزمù من إسحق رابين الأصلي واستطرادù، من تلميذه وخليفته المفترض باراك، الذي »نفاه« الى الخارجية ليطل هو شخصيù على المؤسسة العسكرية ويقودها بأسلوبه.
والاثنان يتناوبان على اتهام سوريا ثم تبرئتها ثم يعودان إلى تأكيد مسؤوليتها عن عمليات المقاومة التي يقودها وينفذها مجاهدو »حزب ا”« ضد جيش الاحتلال الاسرائيلي في جبل عامل وبعض البقاع الغربي.
وبين الاتهام والتبرئة، لا بد من إشارة ما إلى »الحكومة« في لبنان، وهذه مهمة يتولاها الأدنى رتبة، فيترك لرئيس الأركان أمنون شاحاك أن يتوعد الحكومة اللبنانية »بالقلق« بينما هو يذكر »حزب ا”« بمسؤوليته عما قد يصيب الآلاف من اللبنانيين من الضرر، في حين يجمع نائب وزير الدفاع »الجديد« أوري أور بين الحكومة و»حزب ا”« في وعيده بأن يجعلهما يدفعان الثمن، خصوصù أن على الحكومة أن »تبرهن أنها تسيطر« بمنع عمليات المقاومة في الأراضي اللبنانية المحتلة.
مهرجان النار في الجنوب مرشح، إذù، لأن تتواصل عروضه أيامù، وربما أسابيع،
فالثنائي بيريز باراك بحاجة إلى عرض للقوة سواء من أجل استمالة »الداخل«، بمتطرفيه من دون خسارة »المسالمين«، أو في التحرش لمساجلة سوريا، والأهم: في التوكيد للإدارة الأميركية المتخوفة على مستقبل هذه التركيبة الرابينية من دون رابين، أن خلفاء »البطل« ليسوا ضعفاء، وأنهم وإن احتاجوا إلى المزيد من دعمها فليسوا على استعداد لأن »يعطوها« أكثر بكثير مما كان زعيمهم الراحل مستعدù لأن يدفعه ثمنù للسلام الموعود.
اضرب في الخارج تكسب في الداخل،
أضرب سياسيù حيث تستطيع، واضرب عسكريù حيث المدافع هي المعبر الأصدق عن السياسة المعتمدة،
أما »السلام« فعروضه الملتبسة أكثر من أن تحصى، والمهم هو تسجيل النقاط واستمالة »المجتمع الدولي« للتخفيف من حرج الإدارة الأميركية وهي تخسر المزيد من وقتها الانتخابي الثمين، من دون أن تحقق نجاحù يذكر في تجاوز العقبة الأصلية والأساسية لمشروع »السلام« الذي تحتكر رعايته، أي: جوهر السلام مضمونه، شموله وعدالته وقابليته للحياة.
وقد لا تكون برشلونة نصرù عربيù، ولكنها حتى إشعار آخر »خسارة« أميركية، ستحسم من رصيد إسرائيل التي فقدت هناك بعض »الاستثنائية« التي اكتسبتها بأرصدة عربية سواء في الدار البيضاء أو في عمان أو على الطريق بينهما.
والمبالغة في القوة لا تصنع سلامù، تمامù كما أن الإفراط في الضعف لا يوصل الى اتفاقات مقبولة وتستطيع الصمود أمام متطلبات الأجيال الآتية.
وما يجري في الجنوب هو بعض التمارين، أما اختبارات القوة الفعلية فهي تلك التي تستعد واشنطن لفتح بابها عبر الزيارة الأولى لبيريز الرئيس الخليفة الآن، ولما ستأخذه منه مقابل ما سيطلبه لينجز ما عجز عنه إسحق رابين. هذا لو استطاع، وهو لن يستطيع، أو هكذا تقول النجوم!

Exit mobile version