طلال سلمان

جزين وفخ تفتيش اسراذيلي

مسكينة جزين: إنها ضحية ألف مرة!
ما إن تُسحب من سوق التداول أو البازار الطائفي، حتى تُعاد أو تُستعاد إلى البازار السياسي بالمزايدة أو بالمناقصة أو بالأمرين معاً،
يختفي الاحتلال تماماً، أو يُخفى ويُموَّه، فتصير مشكلة جزين وأهلها مع دولتها ومع شعبها، مع المقاومة وليس مع الاحتلال،
يُمسح عن موضوع جزين طبيعته الوطنية ويُعاد طرحه كمسألة طائفية، فيلحق بها الأذى مرتين: مرة بالتزوير المكشوف، ومرة ثانية باستعمالها أداة للفتنة بدل أن تكون كما هي بأصلها أرض توحيد وقضية يلتقي عليها ومن خلالها وفيها الوطن، بشعبه ودولته جميعاً.
يرتفع غبار الاشتباك الطائفي فيطمس وجه القضية الوطنية، وتتحوّل جزين إلى مسألة مارونية (أو مسيحية استطراداً)، بينما هي مثل كل الأرض المحتلة عنوان مشع للصمود الوطني،
وبدل من أن تتوحّد المقاومة بالصمود مع المقاومة بمواجهة الاحتلال بالسلاح، وكلاهما من المعدن نفسه، تدبر المؤامرات وتحبك المناورات وتثار الفتن لكي يتم التصادم بين هذين الوجهين للمقاومة الواحدة، بحيث تضعف جميعاً، ويرتاح المحتل الإسرائيلي.
ويا لمحاسن الصدف:
مع انهماك اللبنانيين في موضوع »العهد الجديد« ورئيسه العتيد، بمواصفاته الاستثنائية التي تجعله أكثر من قديس وأقل قليلاً من نبي مخلص،
ومع بلوغ الحرب الإسرائيلية، السياسية هذه المرة، ذروتها بانتقال بنيامين نتنياهو إلى الأمم المتحدة في نيويورك، ليجدّد من فوق أرفع منبر دولي طرح عرضه المشروط بتنفيذ القرار الميت 425،
ومع انكشاف العجز الأميركي الفاضح عن لجم التطرف الإسرائيلي المهووس بالقوة وبوهم أنه »سلطان الكون«، سواء داخل فلسطين و»سلطتها« البائسة والتي لم يتبق لها ما تتنازل عنه، أو مع »العملية السلمية« الطيبة الذكر، برمتها.
في هذا الوقت بالذات، تمتلئ آفاق لبنان بطروحات وأسئلة وبكائيات واشتباكات طائفية تحت عنوان »جزين«، ويُنسى الاحتلال بل ويكاد يُبرَّأ!
في هذا الوقت بالذات يُراد لنا أن نسقط في الفخ الإسرائيلي، بينما نشهد بأم العين، الضحايا الفلسطينيين وهم يتمزقون داخله.
ليس الاحتلال هو القضية، وليست الأرض المحتلة وحدها، وليس شعبها شعباً واحداً موحداً متوحداً بأرضه وبقضيته،
فالحرم الإبراهيمي غير الخليل، ونابلس غير جنين، وبيت لحم غير رام الله، أما القدس فغير موجودة أصلاً!
لكل مدينة، وأحياناً لكل حي في المدينة (كما في غزة)، قضية مختلفة تماماً عن المدينة الأخرى، وبالتالي فليس ثمة وطن أو شعب، بل مجموعات بشرية متناثرة ومتباعدة ومتناقضة في مطالبها، وأراض غير محددة الهوية أو الملكية، بحيث يمكن صياغة اتفاق خاص لكل منها: اتفاق الخليل، على حساب اتفاق أوسلو الذي هو على حساب القضية، واتفاق المطار في غزة، غير اتفاق الميناء،
أما كازينو القمار والمتعة والترفيه والدعارة في أريحا فله اتفاقه الخاص، وهو الأسهل مروراً إذ لكل فيه نصيب!
هذا هو العرض الإسرائيلي الفعلي علينا في لبنان: تفتيت الوطن الى قرى ودساكر مصلحة كل منها لا تكون إلا على حساب الأخرى، وتفتيت الدولة الى طوائف ومذاهب خير الواحدة منها في الإضرار بالأخرى!
جزين مارونية كاثوليكية، شبعا وقرى العرقوب سنية، بنت جبيل شيعية، مرجعيون أرثوذكسية وحاصبيا درزية، وعين إبل وإبل السقي ودبل مارونية وهكذا…
الاحتلال يهودي والمقاومة شيعية والضحايا موارنة والدولة بلا دين لأنها لا تحمي جزين ولو باقتحامها عسكرياً،
والجيش تحت الامتحان في وطنيته فإن هو لم يدخل جزين سلماً وبلا قتال وإن هو لم يمنع تهجير أهلها (أو من تبقى منهم فيها) يسقط سقوطاً ذريعاً،
والدولة تحت الامتحان فإن هي لم تجلس إلى طاولة المفاوضات مع المتعامل وحامل السلاح والجواز الإسرائيلي والمقاتل دفاعاً عن الاحتلال الإسرائيلي، والخائن بكل التعريفات وكل الأعراف وكل القوانين، تسقط الدولة إذ يثبت انحرافها عن التطبيق الصحيح لاتفاق الطائف،
وإذا لم تقرع أجراس العودة لجزين اليوم اليوم وليس غداً، وخلال المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد لرئاسة الجمهورية، فمعنى ذلك أنه يراد للإحباط المسيحي أن يستمر، وعليه فلا بد أن يتأكد ويتعمق الاستنكاف المسيحي عن المشاركة في حكم يغبنه ولا يعطيه من الصلاحيات والمواقع مع ما يتناسب مع حقوق المسيحيين في كعكة السلطة،
كأنما على الرئيس الجديد أن ينال درع التثبيت من أنطوان لحد، حتى لا يُحرج بطلبه مباشرة من الاحتلال الإسرائيلي،
كأنما أنطوان لحد بات يمثل المرجعية المسيحية!
كأنما أنطوان لحد »يناضل« من أجل رفع الغبن والحرمان عن الطائفة المارونية أو عن المسيحيين عموماً!
كأنما ميليشيا لحد هي »التعويض« عن »القوات اللبنانية«!
وفي حين يسمع اللبنانيون كلاماً عاقلاً من الرابطة المارونية في تحديدها لمواصفات الرئيس الجديد إذ تطلب فيه »رجل الرأي والفكر والحوار والقادر على خلق المناخ المؤاتي لتحرير الجنوب ومقاومة التوطين الخ..«.
فإن أصواتاً أخرى ترتفع منذرة »بغياب الوفاق الوطني إذا ظل الحال على ما هو عليه«، ومتسائلة »لماذا يرى أحدنا بطولة في ما تراه فئة أخرى خيانة وعمالة خسيسة«؟!
هل جزين هي المدخل الأفضل إلى مطلب »التطبيق الصحيح والكامل لاتفاق الطائف«، وهل لحد وميليشياه بند سري في هذا الاتفاق؟!
وهل جزين هي العنوان الأصح للمطالبة بتعديل في صيغة الحكم وأدوار الطوائف وإعادة النظر في الصلاحيات وتعديل الدستور بما يعيد لرئيس الجمهورية مرتبة الملك غير المسؤول أو الأمبراطور المطلق اليد في مصير البلاد وأرواح العباد؟!
هل القضية هي جزين أم الاحتلال؟!
وهل المطلوب رئيس جديد لتعزيز الصمود ومواصلة بذل الدم والجهد من أجل التحرير أم رئيس مناسب للعرض الإسرائيلي المشروط بتنفيذ القرار الدولي الميت؟!
وهل يصح مثل هذا الاشتباك الطائفي المفتعل والسيء القصد والتوقيت، حول القضية الوطنية في لبنان؟!
وهل لنا أن نعرف مصدر »كلمة السر« حول جزين، بتوقيتاتها المشبوهة؟!
إن جزين مدينتنا جميعا، أهلها أهلنا وأرضها أرضنا، فمن يريد تشليعها وفصلها عن سائر الجسد اللبناني؟!
الاحتلال واحد، فهل أقل من أن نكون واحداً في مواجهته، في أقصى الشمال كما في أقصى الجنوب، وفي البقاع كما في الجبل وفي بيروت كما في المغتربات.
جزين واحدة ولبنان واحد والاحتلال واحد والمقاومة واحدة،
وما أسهل المواجهة، في ظل هذه الحقيقة الثابتة، اليوم وغداً وفي كل يوم!

Exit mobile version