طلال سلمان

جريمة ضد لبنانيين قبل فلسطينيين

لم يتبقّ من معالم »الدولة« في لبنان إلا القرارات والاجراءات البوليسية!
ضمُرت المؤسسات وشحب دورها وأُذكيت نار المذهبيات فالتهمت معالم »الجمهورية ذات النظام الديموقراطي البرلماني«،
سُحِب مبدأ الانتخاب من التداول، وصار الخيار المتاح محددù تمامù ومحصورù بين التمديد والتعيين،
اندثرت »السياسة« بما هي صراع بين التيارات والاتجاهات والأفكار والمواقف والآراء، وأعطى الحكم نفسه حقوق الوصاية الجبرية على مواطنيه القاصرين، فحظر عليهم التظاهر والاضراب ورفع الصوت بالشكوى من تفاقم التردي في أوضاعهم المعيشية،
الأمن قبل الرغيف، الأمن أولاً، الأمن أخيرù،
وبالمنطق البحت أمني تصبح الحريات العامة فوضى تهدد الاستقرار، وتصبح المعارضة تخريبù لخطة النهوض الاقتصادي، ويلغَّم النقاش حول قانون الانتخاب والتقسيمات الادارية بمهيجات طائفية ومذهبية تذهب بجدواه بل وتسحبه لتوظفه ضد حق الناس في التعبير عن أنفسهم، ودائمù بذريعة أن الخروج من مثل هذا الاطار المنضبط داخل مقتضيات »الصيغة« قد ينسف السلم الأهلي ويجدد الحرب!
في ظل هذا التقديم المطلق للأمن على كل ما عداه يمكن استغلال الخطأ السياسي الشنيع الذي ارتكبه معمر القذافي ازاء العرب العاملين في ليبيا عمومù والفلسطينيين منهم خصوصù للتغطية على خطيئة سياسية وإنسانية تؤذي لبنان واللبنانيين أكثر مما تؤذي أولئك الذين رمتهم الهزيمة العربية في مواجهة المشروع الصهيوني من الفلسطينيين في لبنان فعاشوا فيه منذ السنة 1948 وحتى اليوم و»منحوا« وثائق رسمية منه تعترف بهم كبشر وتمكّنهم من حق السفر والانتقال منه وإليه بحثù عن لقمة العيش الكريم.
تُصطنع قضية وهمية، وترمى في الشارع لاستثارة الغرائز الطائفية والذكريات السوداء لأيام الحرب الوحشية، وتُسقط عن فلسطينيي لبنان إنسانيتهم وليس فقط ما تبقى من »حقوق اللاجئ« التي ما تزال »الدولة« ترفض تحديدها ومن ثم احترامها، ويتبارى غربان المزايدات والمناقصات الطائفو سياسية في نهش لحم هؤلاء »الأيتام« الذين باتوا الآن بلا سند وبلا حامٍ وبلا مرجعية محلية أو عربية أو دولية،
تصدر البلاغات شبه العسكرية عن »الزحف الفلسطيني« الداهم، ويتحوّل مجلس الوزراء الى ما يشبه »مجلس الأمن القومي« أو »الحكم العرفي« ويطلق بعض وزراء المصادفات والنفاق ألسنتهم في تسفيه تاريخ الأمة ونضالاتها وجراحها، ثم ترسل التعليمات إلى السفارات ومكاتب شركات الطيران بمنع »الطاعون الفلسطيني« من التسرّب إلى لبنان برù أو بحرù أو جوù، ويكلّف جهاز الأمن العام بمعالجة واحدة من أعظم مآسي العصر التي عجز المجتمع الدولي حتى اليوم عن حلها كما عن طمسها.
ويذهب الحكم الذي يفترض أنه يكرّس »عروبة لبنان« والتزامه بمقتضياتها إلى أبعد مما بلغه رموز الانعزالية المجددة، مثل بشير الجميل، في القسوة على الفلسطينيين واحتقار إنسانيتهم: فذلك الرمز الأبرز للهيمنة الفئوية، ولوحشية الميليشيا الطائفية وللعلاقة المباشرة مع الإسرائيلي الذي أوصله بدبابته الى الرئاسة، لم يطلب من الفلسطيني المقيم على الأراضي اللبنانية أكثر من الالتزام بالقوانين ودفع فواتير الكهرباء والهاتف…
أما »حكم الطائف« والتحالف مع سوريا، كتدليل على التزامه المطلق بالتوجه القومي، فإنه ينكر على هذا الفلسطيني حقه في أن يعيش.
إن السفارات اللبنانية في الخارج ومكاتب شركات الطيران ومطار بيروت الدولي وسائر نقاط الحدود تشهد يوميù سلسلة من المآسي الإنسانية التي يندى لها الجبين خجلاً، إضافة إلى فظاعة دلالاتها السياسية.
لا الزوجة تستطيع العودة إلى زوجها، ولا الأبناء يستطيعون الالتحاق بأسرهم، ولا العائدون في إجازة يستطيعون الرجوع إلى حيث كانوا يعملون، ولا الخارجون بحثù عن الرزق الحلال الذي عزّ عليهم في لبنان الذي يكاد لا يخلو بيت متوسط الدخل فيه من فيليبينية أو سيرلنكية، والذي تتهاطل عليه العمالة الأجنبية من أربع رياح الأرض، يستطيعون الاطمئنان إلى أنهم إذا ما حصلوا بعد جهد على تأشيرة خروج سيتمكنون من بعد غربتهم من الرجوع إلى بيوتهم بما جنوه بعرق الجبين.
أي لبنان هو هذا الذي تُنكر »دولته« الوثائق الصادرة عنها والممهورة بأختامها، والمنظَّمة بموجب معاهدات واتفاقات دولية، قبل أن نتحدث عن الواجب القومي والعاطفة الإنسانية الطبيعية؟!
أية عروبة هي هذه التي تسحق كرامة الفلسطيني المقيم في لبنان منذ ولادته، وتزدري بأبسط حقوقه كلاجئ، إن لم يكن كأخ شقيق؟!
وأين هو التمثل بسوريا في معاملتها لفلسطينييها حيث يتساوون مع مواطنيها تمامù إلا في الهوية وحق الانتخاب؟!
أين ذلك كله من هذا التوظيف القذر لهؤلاء الضحايا المتروكين لمصيرهم في البلد الذي تتشكل غالبية أهله من مجاميع »اللاجئين« أو المستلجأين والممنوحين هويته الغالية بذرائع طائفية رخيصة، أو بأغراض سياسية أرخص؟!
إن هذه التدابير التعسفية وغير المبرّرة وغير المقبولة هي إهانة وتحقير »للإنسان اللبناني« ولما يسمى »القيَم اللبنانية«،
إنها جريمة بحق لبنان، »الدولة«، أو ما تبقى منها، والمواطن، أو ما تبقى منه.
والساكت عنها شريك ضالع فيها، مثله مثل النافخ في نار الفتنة التي يراد من إهاجتها طمس أساس الموضوع.
وفي ظل جريمة كهذه لا يشرِّف أي مواطن أن يحمل هوية دولة لا تحترم التزاماتها، وتتربص بحاملي وثائقها الرسمية لكي تسومهم سوء العذاب من دون ذنب ارتكبوه اللهم إلا… فلسطينيتهم!
إنها جريمة أخطر من »التطبيع«،
إنها خدمة مجانية للمشروع الإسرائيلي الذي يتضمن، في جملة ما يتضمن، اتفاقات الإذعان من كمب ديفيد إلى غزة أريحا إلى وادي عربة الملكي.
وليس خطأ القذافي عذرù، وإن كان وفّر الذريعة، فالواضح أن هذه الدولة البوليسية كانت تنتظر أول إشارة لترتكب مثل هذا الفعل الفاضح الذي يشكل مرة أخرى اعتداء على »اللبناني« وامتهانù لكرامته وإهدارù لعروبته واحتقارù لإنسانيته قبل أن يكون عقوبة للفلسطيني على أنه لم يلتحق بالمشروع الإسرائيلي.
أترى مثل هذه الجريمة ضرورية لتمرير التمديد؟!

Exit mobile version