طلال سلمان

جريمة اغتيال حريري خوف على »الحقيقة« من »الصفقة«

يعيش اللبنانيون »حالة طوارئ نفسية« ثقيلة الوطأة، تحت ضغط مواعيد متلاحقة يفترضون أنها ستقودهم إلى معرفة الحقيقة كاملة حول جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه قبل ثمانية أشهر في قلب بيروت التي أعاد بناءها لتكون عاصمة الشرق العربي.
فيوم الجمعة المقبل، 21 ت1، سيقدم المحقق الألماني ديتليف ميليس نسخة من تحقيق لجنته الدولية الى القضاء، ومن ثم السلطة في لبنان..
ويوم الإثنين المقبل، 24 ت1، سيقدم ميليس تقريره الكامل إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، مرفقاً بالتحقيق واستخلاصاته من وقائعه الكثيرة والمهولة.
ويوم الثلاثاء، في 25 ت1، سيلتئم مجلس الأمن في جلسة خاصة لمناقشة ما سوف يتلقاه من خلاصات واستنتاجات يقررها كوفي أنان، تمهيداً لمباشرة النقاش في الخطوة أو الخطوات التالية، ومن بينها ما سيوصي به ميليس، على الأرجح، من ضرورة رفع أمر الجريمة إلى محكمة دولية، وهي توصية ستلح عليها السلطة في لبنان، بالتأكيد، مقررة استحالة محاكمة المخططين والمحرضين والمنفذين في بيروت أمام القضاء اللبناني.
ولسوف يلهث اللبنانيون في انتظار هذه المواعيد مفترضين أنهم في ختامها سيتنفسون الصعداء بعد الوصول إلى الحد الفاصل بين الحق والباطل، بين الشك واليقين، واستطراداً بين الجريمة والعقاب..
لكن مجريات الأمور قد تسير في اتجاه مغاير لرغبات اللبنانيين وتطلعاتهم، إذ يتضاءل »الدور اللبناني« في تقرير لجنة التحقيق الدولية في الجريمة، ومن ثم في الآثار السياسية التي ستترتب عليه والتي تشكل استثمارات هائلة للقوى القادرة على توظيفها، وهي قوى غير لبنانية بطبيعة الحال.
فالسياسة الدولية لا تعترف بالعواطف ولا تتوقف عندها إلا إذا كانت تفيدها كاستثمار مجز في الوصول إلى أغراضها..
ومع أن اللبنانيين جميعاً، وعلى اختلاف مواقعهم ومواقفهم من الرئيس الشهيد هم المعنيون، أساساً، بمعرفة الحقيقة، فإن »التصرف« بالنتائج السياسية لجريمة الاغتيال التي أودت بحياة الرئيس الأخطر في تاريخهم السياسي الحديث قد باتت خارج أيديهم يتحكّم بإعلانها كاملة أو مجتزأة أو كتمان الكثير من وقائعها الطرف أو الأطراف الدولية الأقدر على استثمارها وتوظيفها في خدمة مصالحها التي تتجاوز لبنان أو عواطف اللبنانيين وتمنياتهم.
إن التحقيق ونتائجه المحتملة قد بات الآن، وبشهادات موثقة ومعممة عالمياً، وهي صادرة عن أعلى مواقع المسؤولية في الإدارة الأميركية، وفي دول أخرى أبرزها بريطانيا وفرنسا، قد صار بنداً في جدول طويل للمطالب الأميركية من القيادة السورية تتناول »سلوكها« في »جوارها« أي العراق وفلسطين ولبنان ومن ثم طبيعة نظامها وممارساته في »الداخل السوري«.
لقد باتت المساومة الأميركية مع القيادة السورية موضوعاً مفتوحاً للنقاش العلني، تجري به ألسنة وزراء الخارجية في واشنطن وباريس ولندن وموسكو، وكذلك في القاهرة والرياض، بل وحتى في تل أبيب، وفي عمان، كما تكتب حوله التقارير الصحافية ذات المصادر الموثوقة والقريبة من مراكز القرار في أخطر عواصم الكون..
بل إن البعض يدرج المقابلة المفاجئة التي أجرتها شبكة »سي. ان. ان« بعد طول انقطاع، بل ومقاطعة، مع الرئيس السوري بشار الأسد، في هذا السياق، مع إشارات واضحة إلى أن الأسئلة موضوعة بالقصد، ومصاغة بدقة، لسماع أجوبة محددة توسع باب المفاوضات وتقرّبها من النتائج المستهدفة.
ولعل اللبنانيين (وقبلهم السوريون) قد فوجئوا ببعض المواقف التي أعلنها الرئيس السوري وأخطرها موافقته على إنشاء محكمة دولية لمحاكمة من تثبت إدانته من المسؤولين في دمشق عن جريمة اغتيال الحريري، الذين صنفهم في هذه الحالة »خونة« وخارجين عن طاعته… وهو بهذا قد سبق الحكومة اللبنانية التي ما تزال تناقش احتمال اللجوء إلى طلب المحكمة الدولية في ظل التوازن الدقيق الذي يحكم تكوينها.
وفي معلومات بعض القيادات السياسية أن مهلة الشهرين الإضافيين التي أعطيت لديتليف ميليس، برغم أنه لم يطلبها، هي »الفرصة الأخيرة« التي منحتها الإدارة الأميركية للقيادة السورية كي تعدل سلوكها إزاء الوضع في العراق (ومقاومة الاحتلال الأميركي فيه) وإزاء الوضع في فلسطين (ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومشاريعه لتفتيت القضية تمهيداً لشطبها)، ومن ثم ازاء مستقبل لبنان الذي خرج من الفلك السوري ولن يعود إليه، فضلاً عن ضرورة تخليه عن نمط حكمه لسوريا والأخذ بالديموقراطية التي تبشّر بها واشنطن وتسعى لتحقيقها (التجربة الأفغانية أو العراقية نموذجاً)..
يتصل بذلك ما أعلنته الصحف الإسرائيلية من أن الإدارة الأميركية قد طلبت من الحكومة الإسرائيلية رسمياً الامتناع عن مقاربة جريمة اغتيال الرئيس الحريري، حتى لا تحدث تصرفاتها ردود فعل من شأنها أن تؤثر على المساومة السياسية الكبرى الجارية الآن..
وليس سراً أن »الدول« والإدارة الأميركية على رأسها التي ترى في اغتيال الرئيس الحريري استثماراً مجزياً تريد توظيف قرار مجلس الأمن الرقم 1595 المتصل بالجريمة، في سياق الضغط لتنفيذ القرار الدولي الرقم 1559 وبالتحديد البندين الثاني والثالث منه المتصلين بنزع سلاح المقاومة (حزب الله) وبالوجود الفلسطيني في لبنان الموصوم بأنه مجرد ميليشيات..
وبرغم ادعاء المسؤولين في واشنطن وباريس ولندن بأنهم لا يعرفون ما يتضمنه تقرير ميليس إلا أن الجميع يتصرف وكأن لحظة إعادة صياغة المشرق العربي (لبنان، سوريا، العراق وفلسطين) قد حانت، بعدما غدت القيادة السورية محاصرة في قفص الاتهام مشغولة بالدفاع عن نفسها، ولديها فرصة محدودة لتلبية الشروط وإلا… وهي الفرصة التي وصفها وزير الخارجية المصري بأنها »ضرورية لإفراغ الأزمات من شحنة التوتر والصدام، حفاظاً على الاستقرار في لبنان وسوريا«.
يمكن إدراج التهديدات الأميركية العلنية لسوريا، والتي اتخذت شكل تقارير صحافية تتحدث عن التخطيط لعمليات خاصة داخل سوريا، في سياق البازار المفتوح لتعديل موقف القيادة السورية وسياساتها في الداخل وفي جوارها كشرط لاستمرارها أو لاعتمادها على طريقة »صفقة القذافي« الشهيرة.
يمكن أيضاً إدراج حركة مساعد الأمين العام للأمم المتحدة تيري رود لارسن في سياق الإعداد للصفقة، خصوصاً أنه يقدم نفسه بوصفه الأعرف بشؤون هذه المنطقة وأوضاع حكامها، عبر تجربته الإسرائيلية.
* * *
ما يعني اللبنانيين من هذا كله إضافة إلى »الحقيقة حول جريمة اغتيال الرئيس الحريري«، ما يتصل بمستقبلهم في بلادهم، وموقع هذه البلاد في منطقتها، وعلاقاتها بمحيطها العربي أساساً.
وإذا كان اللبنانيون قد قبلوا مضطرين بتدويل التحقيق في هذه الجريمة البشعة لعدم ثقتهم بسلطتهم وبالقضاء الذي كان يخضع لهيمنتها (المخضعة للوصاية السورية)، فإنهم لن يرحبوا بتدويل مستقبلهم، بحيث تتحكّم بتشكيله الإدارة الأميركية الواضحة مواقفها من المنطقة وقضايا شعوبها (نموذج العراق) … ولن يكون من دواعي الاطمئنان إلى »الاستقلال الجديد« أن تكون فرنسا هي الضامنة من تحت العباءة الأميركية.
إن اللبنانيين يريدون »الحقيقة« لمعاقبة المخططين والمحرضين والمنفذين لجريمة اغتيال الحريري، وليس لكي يخرجوا من جلودهم،

ولكي يذهبوا بأقدامهم إلى »انتداب« جديد، وقد فرض عليهم قبوله بوصفه أفضل بما لا يقاس من »الوصاية السورية«..
لقد وافق اللبنانيون على تدويل التحقيق في الجريمة لأسباب موضوعية تتصل بعدم ثقتهم بسلطتهم، لكن هذا لا يعني بالضرورة الموافقة على الاستثمار الدولي لهذه الجريمة في أغراض تعني الإدارة الأميركية (أو الفرنسية) وتتقدم لديها على »الحقيقة«، فالمصالح تتقدم دائماً وفي كل مكان وزمان على الحقائق… بل إن الحقائق يمكن، في أحيان كثيرة، مسخها أو تشويهها أو اجتزاؤها لخدمة مصالح محددة.
والأقوى هو الأقدر على توظيف الحقائق في مصالحه.
وبالطبع فإن هذه الاستنتاجات لا تهدف إلى تبرئة أي طرف متهم الآن أو سيتهم لاحقاً فيدان ويتم الاقتصاص منه على جريمته، وإنما تهدف إلى ضرورة التمييز بين أهداف اللبنانيين من اطمئنانهم إلى معرفة »الحقيقة« حول الجريمة التي أودت بزعيمهم الكبير وبين الأهداف التي يريدها الآخرون تحقيقاً لمصالحهم، ولو على حساب اللبنانيين، فضلاً عن دماء الرئيس الشهيد.
إن »الحقيقة« قد تذهب ضحية الصفقة.
وللصفقة طرفان لا طرف واحد.
وعلينا أن نستريب بالطرف الأقوى أكثر من استرابتنا بالطرف الأضعف حتى لو كنا ندينه مسبقاً وقبل إذاعة تقرير ميليس الذي سيتضمن وقائع وشهادات قد تنير الطريق إلى الحقيقة لكنها لن تكون الحقيقة كاملة غير منقوصة.
وإذا كان علينا أن نحمي دماء الحريري ورفاقه من أن تذهب هدراً، فيبقى المجرمون بمنأى عن العقاب، فإن علينا أيضاً أن نحمي لبنان كله (وضمنه شهيده العظيم) من أن يتحول إلى مجرد بند في صفقة دولية قد لا تكون لنا القدرة على منعها، بالمطلق، لكننا نظل قادرين على منع ارتدادها على لبنان بضرر عظيم جديد، في حاضره ومستقبله.
إن واجبنا الآن أن نحمي رفيق الحريري بحماية لبنان الذي أراده وعمل له رفيق الحريري، لبنان الديموقراطية والعروبة والاستقلال.
وإذا كانت الوصاية السورية قد عطلت أو منعت قيام مثل هذا اللبنان، فإن الانتداب الدولي لا يقود إليه أبداً.

Exit mobile version