“عسكر سوريا واحزابها” هو الكتاب الجديد للزميل العزيز فؤاد مطر.. وهو الصحافي المميز الذي يكاد يُلزم نفسه بتأريخ التحولات العربية على امتداد ثمانين سنة، تقريباً، موثقاً الاحداث الفاصلة في العديد من الاقطار العربية بعنوان مصر اساساً، (الناصرية ثم الساداتية ثم ما بعدهما) وان كانت لتشمل السودان والعراق، وهو قد عرفها جميعاً عن قرب، وحاور العديد من قياداتها، سواء في السلطة او المعارضة..
وها هو كتابه الجديد “عسكر سوريا واحزابها.. ـ غواية الانقلابات والتقلبات والولاءات الحنظلية.. ودراميديا التعددية وجنون العظمة لجنرالات البلاغ الرقم واحد”.
ولسوف نكتفي هنا بنشر مقدمة الكتاب الذي يعرض لمرحلة تكاد تكون قد سقطت من الذاكرة العربية، بعد طابور الانقلابات العسكرية التي كادت تدمر الماضي من دون أن تنجح ـ تماما ـ في صنع الحاضر.. ومن ثم المستقبل.
لهذا الكتاب حكاية تُروى
”إذ لم تقم بالعدل فينا حكومة
فنحن على تغييرها قُدراء“
أبو العلاء المعري
لهذا الكتاب الجديد والذي يحمل رقم 32 من مؤلفاتي التي كان مبتداها كتاب “رؤساء لبنان من شارل حلو إلى شارل دباس. ذكريات ووقائع وطرائف وصور”، حكاية تُروى وتعود إلى الستينات. كنت زمنذاك أشق طريقي في مهنة الصحافة محرراً في صحيفة “النهار” حائراً بين الإهتمام بالتحقيقات الصحافية والتركيز على الأمور الأدبية والفكرية والمحاضرات التي تُلقى في مراكز وندوات لعل أهمها “الندوة اللبنانية”، التي واكبتُ نشاطاتها وساعدت بالتالي المحاضرات التي كانت تُلقى مِن على منبرها في بلورة ثقافتي ومفاهيمي السياسية. وذات يوم كان ناشر “النهار” زميلنا الغائب الحاضر الأستاذ غسان تويني يبدي إهتماماً في التحقيقات الصحفية التي أكتبها وفي التغطية للمحاضرات جزءاً من عملي في “النهار”. ولاحظ أنني أُدون ملاحظات عن ظاهرة الإنقلابات العسكرية في سوريا من الإنقلاب العسكري الأول الذي قام به الزعيم (رتبة عسكرية) حسني الزعيم وكيف إنتهى الثنائي المدني رئيس الجمهورية شكري القوتلي ورئيس الحكومة خالد العظم وكثيرون من الذين شاركوا في الجمهورية الأولى في السجن ثم في المنافي العربية والأوروبية. وبعدما خصني الرئيس السوري الأسبق المرحوم ناظم القدسي بلقاء في دمشق رتب له الزميل زهير مارديني، روى فيه معاناته كسياسي مدني مع الظاهرة الإنقلابية، فإن عزيمتي زادت حماسة لأواصل التدوين وتسجيل الملاحظات وجمْع القصاصات المتصلة بالإنقلابات السورية وتحديداً بالإنقلاب الأول الذي قام به حسني الزعيم وكان فاتحة العهود الإنقلابية السورية.
بعدما أوضحتُ لأستاذنا دواعي إهتمامي الصحافي بظاهرة الإنقلابات العسكرية السورية وأبديتُ إقتراحاً بصيغة التمني لو أحوِّل ما دونْته وجمعْته إلى كتاب يصدر عن “النهار”، فإنه رد بالقول: سيتم ذلك ذات يوم وأرى أن تواصل ما كنتَ بدأتْه من تحقيقات حول الرؤساء الذين تعاقبوا على سدة رئاسة الجمهورية اللبنانية، ذلك أنني وضِمْن عملية تطوير في “النهار” أرى إصدار كتاب سياسي كل بضعة أشهر حول موضوعات ساخنة وأيضاً بهدف التنوير. وحيث أنك حققتَ لفتات إنتباه من كثيرين بالتحقيق الذي كتبْتَه عن القصر الجمهوري (قصر بعبدا) الذي كان في مرحلة متقدمة من الإنشاء، وإخترتُ تسمية له “البيت الأبيض اللبناني” وكيف أن في القصر سرداباً أُنشىء بغرض حماية الرئيس أو إضطراره للهروب في حال حدث إنقلاب من نوع الإنقلابات السورية وبالذات الإنقلاب الذي قام به حسني الزعيم، فإنني أرى إرجاء تنفيذ فكرة الكتاب حول الإنقلابات السورية والشروع في إنجاز كتاب عن رؤساء لبنان يكون الأول في سلسلة “كتاب النهار”. ورأى بنظرة الأستاذية أن يبدأ الكتاب بالرئيس الحالي، وكان زمنذاك شارل حلو، ثم الذين سبقوه بالتوالي وهم فؤاد شهاب، كميل شمعون، بشارة الخوري، وقبْل هؤلاء هنالك الذين ترأسوا قبْل الإستقلال في زمن الإنتداب الفرنسي: بترو طراد. أيوب تابت. إميل إدة. حبيب باشا السعد. شارل دباس. كما إقترح إطلاق صفة على كل رئيس توضع مع إسمه وفترة رئاسته. وهكذا كان. حيث جاءت توصيفاتي للعشرة الذين ترأسوا (بعضهم رئيس الجمهورية وبعضهم رئيس دولة) على النحو الآتي:
شارل حلو رجل الإستقالات والهوايات: بفضل مساعيه سنة 1948 لم يعترف الفاتيكان بإسرائيل.
فؤاد شهاب الذي يصلِّي أمام العذراء كل يوم: بداية منقذة للبلاد ونهاية منقذة للدستور.
كميل شمعون اللغز الذي يجيب بأشعار الجاهلية: بدأ طبيعياً في رأي الجميع وإنتهى غير طبيعي في رأي الذين ثاروا عليه.
بشارة الخوري دموع كل ليلة على “إبنة الحلال”: غصة الموافقة على التجديد رافقتْه إلى القبر.
بترو طراد هاوي سياسة، هاوي محاماة، هاوي نزاهة: بسبب الموقف السياسي المتأزم جيء به رئيساً للدولة.
أيوب تابت البروتستاني المذهب المتعصب للكثلكة: حياته البرلمانية كانت صاخبة ورئاسته لم تُعجب المسلمين.
ألفرد نقاش عالج قضايا لبنان في صحف القاهرة: بسبب مظاهرة تأييد قبْل الظهر أسقطه الجنرال كاترو بعد الظهر.
إميل إده في دمشق وُلد وفي بيروت ترأس: غلطته في ثورة تشرين أقصته عن زعامة التيارات المعارِضة.
حبيب باشا السعد الوجه الماروني بالأسلوب التركي: فشل مع الفرنسيين أيام الإنتداب ونجح مع اللبنانيين أيام الرئاسة.
شارل دباس الأرثوذكسي الملة الفرنسي الزوجة: عيَّنوه مرتين ثم هاجر إلى باريس على أمل العودة رئيساً للمرة الثالثة.
وأرفقتُ النص بعد كتابته في صيغة حلقات بصور شخصية وتاريخية للعشرة الذين ترأَّسوا لبنان (ستة بين أرثوذكس وكاثوليك في حالته الإنتدابية وأربعة في لبنان الذي نال إستقلاله مع التوافق على أن يكونوا والذين تعاقبوا مِن بعدهم من الطائفة المارونية). كما أن الزميل الفنان الغائب الحاضر بيار صادق عزز بريشته رسوم الرؤساء العشرة.
صدر كتاب “رؤساء لبنان من شارل حلو إلى شارل دباس” وكان المؤرخ الغائب الحاضر الأستاذ يوسف إبراهيم يزبك المرجع والمسانِد وبذلك خلا العمل من هنات ولقي رواجاً، لكن كانت هناك تعليقات وملاحظات من بينها قول السياسي المرموق الغائب الحاضر الأستاذ ريمون إدة عند تقديمي النسخة الخاصة به “هل تقصد بعنوان كتابك أن أولهم شارل .. وآخرهم شارل”. وإلى هذه الوخزة طلب عميد حزب “الكتلة الوطنية” تزويده بمئة نسخة من الكتاب أهداها لبعض قياديي الحزب ولأصدقاء، ما يعني أن النص الخاص بوالده كان موضع إرتياحه ولقي رواجاً.
ما كنتُ أتطلع إليه في ضوء ذلك هو أن أُتبع الكتاب الأول لي بالكتاب الآخر حول الظاهرة الإنقلابية السورية الذي أشرتُ إلى دواعي إرجاء تنفيذه. وهنا جاءت فكرة المباشرة بتحويل ما جمعْتُه من قصاصات وأواصل تدوينه من ملاحظات ومعلومات حول الظاهرة الإنقلابية تلك، بعدما باتت الإضبارة الواحدة إضبارات تحوي ما يشكِّل مادة للكتابة.
لكن تطوراً حدث وحال دون ذلك، ويتمثل في أن التطورات في مصر الناصرية غدت جزءاً من عملي في “النهار” وقد تطلَّب ذلك السفر بمعدل سفرية كل ثلاثة أسابيع إلى القاهرة وبذلك طُويت إضطراراً فكرة الشروع في تحضير الكتاب الإنقلابي إنما من دون صرْف النظر نهائياً. وفي سنوات الإضطرار تلك واصلتُ إضافة ما تَيسر إلى الإضبارات من معلومات وروايات شهود كما أفادتني لقاءات ببعض رموز تلك الحقبة، أي زمن الإنقلاب الذي قام به حسني الزعيم وأتى عليه إنقلاب سامي الحناوي وصولاً إلى الإنقلاب الذي قام به أديب الشيشكلي ودفع حياته ثمناً. ثلاثة جنرالات يمكن إعتبارهم الشتلة التي إنتهت شجرة وأثمرت إنقلابات أدخلت سوريا في دوامة، فضلاً عن أن جنرالات الإنقلابات السورية حفَّزوا جنرالات وعقداء ورواد في العراق والسودان واليمن إضافة إلى البكباشيين والصاغات في مصر على خوض هذه التجربة الحنظلية. وأما الرموز الذين أشرتُ إلى لقاءات جمعتْني الظروف بهم فإنهم الرئيس ناظم القدسي في دمشق ثم أكرم الحوراني في بيروت وميشال عفلق في بيروت ثم في بغداد. والإثنان الأخيران شغلا مناصب وزارية في العهود الإنقلابية السورية الأُولى وكان لكل منهما دور لافت في صعود المرحلة وهبوطها.
في أواخر التسعينات كنتُ طويتُ صفحة دور إعلامي تنويري ومتجرد تمثَّل في إصدار مجلة في لندن تحمل إسم “التضامن” وشعارها “مجلة العرب من المحيط إلى الخليج” ثم جاءت الغزوة الصدَّامية للكويت وما نشأ عنها من تداعيات أكثرها خطورة حرب الرئيس بوش الأب ثم حرب إبنه على العراق تتسبب بإضطراب أوضاع الإعلام العربي في لندن وباريس عموماً وتجربة “التضامن” في شكل خاص كونها تعتمد توزيعاً وعوائد في الدرجة الأُولى على أسواق العراق ودول مجلس التعاون الخليجي ثم ليبيا والسودان. ولقد فرض عليَّ ذلك إتخاذ القرار الإختياري الصعب، وهو وقْف إصدار المجلة تفادياً للأخذ بموقف غير متجرد من الغزوة ومن الحرب على العراق لا ترتاح له بعض الدول المشار إليها والتي ربطتني بمسؤوليها وعلى جميع المستويات صداقة، فضلاً عن أن تكلفة الإصدار من دون العائد المجزي من التوزيع تجعل من الصعوبة بمكان الإستمرار في الصدور. ولمجرد أن إستُعيدت الكويت وسكتت المدافع وبدأ العراق إحتواء الكارثة التي لحقت به من الحرب البوشية إبناً بعد أب، وجدتُ من المهم توثيق هذه الحرب لأنها ستؤسس لما هو آتٍ وأعظم من التطورات. وبالتعاون مع عدد من الزملاء والباحثين والمؤلفين أنجزتُ العمل المتميز “موسوعة حرب الخليج. اليوميات-الوثائق– الحقائق” ولقيت الموسوعة بصفحاتها الألف الموزَّعة على جزئيْن إهتماماً متنوع المقاصد إذ رأى فيه الجانب السعودي وبالذات الأمير تركي الفيصل الذي كان يَشْغل منصب رئيس المخابرات العامة تحيزاً للموقف العراقي ورأى فيه بعض المحيطين بالرئيس صدَّام في الفترة بين حرب بوش الأب ثم حرب بوش الإبن عليه أنه وازن بين المعتدي والمعتدى عليه وبين الظالم والمظلوم.
عادت فكرة “الكتاب الإنقلابي” من جديد تدور في خاطري. وهنا وجدتُ نفسي أضع الإضبارات على مكتبي ثم الشروع في تحويل الملاحظات والقصاصات إلى مادة مكتوبة. وخلال خمسة أشهر كانت هنالك عشرات الصفحات بخط اليد تحتاج فقط إلى إعادة قراءة أتدارك فيها وقائع وأسماء قبْل تسليمها إلى المطبعة على نحو ما حدث مع تجربة منشورات “هاي لايت. H.L ” نشْر بعض مؤلفاتي في لندن وهي: “موسوعة حرب الخليج” و كتاب “صدَّام حسين. السيرة الذاتية والحزبية وأسلوب الحُكْم وإدارة الصراع. 1980 -1937” وكتاب “حكيم الثورة. سيرة حياة الدكتور جورج حبش”. وهذا الكتاب له أيضاً حكاية تُروى وهي في مضمونها عكْس “الكتاب الإنقلابي” الذي أروي هنا حكاية ظروفه، ذلك أن كتابي عن الدكتور حبش تم إنجازه لكي يصدر في بيروت، لكن الحرب التي حدثت وأوجبت هجرتي إلى فرنسا ثم إلى بريطانيا جعلت نشْر الكتاب على درجة من العسر فوضعتُ مخطوطة الكتاب في حقيبة السفر إلى دنيا الإغتراب القسري، وكنتُ قبْل إصداره في كتاب نشرْنا فصولاً منه في “التضامن” وفاجأني الصديق الدكتور حبش بعتاب أخوي على النشر ذلك أنه بات مقيماً في رحاب سوريا حافظ الأسد رحمة الله على الإثنيْن، وكان في أحد فصول الكتاب سجَّل في معرض التحليل ملاحظات تتعارض، أو على الأقل لا تنسجم مع رؤية الرئيس الأسد. ولو كان أحيط (أي الدكتور حبش) بالنشر في لندن (الكتاب وفصول منه في “التضامن”) لكان طلب إطلاعه على المادة بغرض إعادة النظر في عبارات أو كلمات أو وقائع. وفي أي حال إنتهى العتاب على تجديد للود وعُمْق الصداقة وعبَّرتُ عن ذلك في تقديمي الطبعة النهارية(*) البيروتية من كتاب “حكيم الثورة. سيرة جورج حبش ونضاله”.
ثم فجأة أوجبت العودة من لندن إلى بيروت من أجْل الإستقرار فيها أن أشحن مقتنياتي وكتبي وعشرات الإضبارات التي بعضها شخصي وبعضها يتصل بمكتبي كناشر. وبينما إنصرفتُ إلى البحث بغرض التأليف وكان نتاج خمس عشرة سنة مؤلفات حول قضايا عربية واكبتُ تطوراتها السياسية والظروف المأساوية التي عاشها حكام بعضهم أصدقاء وإنتهت كوارث لبعض الأوطان لم تكن الأمور الإنقلابية مطروحة على بساط شغف الناس بالقراءة عنها ولذا ركزتُ الإهتمام على قضايا أُخرى وكان لي بعد إستقرار العودة إلى بيروت عدد مِن المؤلفات (لائحة بأسماء هذه المؤلفات وسنوات صدورها في آخر الكتاب…).
كما كانت العودة من الوطن الثاني بريطانيا (كوني إكتسبتُ جنسيتها) إلى الوطن الأم لبنان ثم مشاعر التقدم في العمر، مناسبة لكتابة مذكراتي التي صدرت بعنوان “هذا نصيبي من الدنيا. سيرة حياة ومسيرة قلم”.
ثم جاءت الإنتفاضة الشعبية في السودان والتي إستطاع المجتمع المدني مدعوماً من نخبة ضباط كبار الرتبة أن يدفع بنظام الفريق عمر حسن البشير إلى التساقط، تحفِّزني ومعها الإنتفاضة غير المحسومة إلى حين في الجزائر على القيام بقراءة ثانية للمئتي صفحة حول الظاهرة الإنقلابية السورية الأُولى المستقرة نسبياً التي حبُّرت بالكثير من الدقة والتفاصيل وقائعها بخط اليد وكانت من ضمن الإرث الكتابي والأدبي العائد معي إلى بيروت. ثم على تحويل المادة إلى كتاب جديد لي. وبعد التأمل في عدة صِيَغ للتسمية إستقر الرأي على أن يكون الآتي: “عسكر سوريا… وأحزابها. غواية الإنقلابات والتقلبات والولاءات الحنظلية… ودراميديا جنون العظمة لجنرالات البلاغ رقم 1”.
قد أجد مَن يتساءل على سبيل المثال والإستفسار:
وماذا عن الإنقلابات التي حدثت لاحقاً وتحديداً بين 23 يوليو 1952 أي الثورة- الإنقلاب التي قام بها مجموعة من الضباط بقيادة جمال عبد الناصر وأسست العهد الجمهوري في مصر، إنما من دون أن تؤذي الملك فاروق وأفراد الأسرة المَلَكية على النحو الذي فعلتْه الثورة ـ الإنقلاب التي حَدَثت في العراق المَلَكي يوم 14 يوليو/ تموز 1958 إستلهاماً لثورة 23 يوليو في مصر وقام بها مجموعة من الضباط بقيادة عبد الكريم قاسم وإرتَكبَت وزراً ما بعده وزْر في حق الملك، الذي لم يتوِّج فيصل الثاني والذي كان تحت وصاية وليّ العهد، وفي عدد من أفراد الأُسرة المالكة وبعض السياسيين وأبرزهم نوري السعيد.
ثم ماذا عن الإنقلاب العسكري الأول في السودان الذي قام به في نوفمبر/ تشرين الثاني عدد من الضباط برئاسة إبراهيم عبود الذي بات لمجرد حدوث الإنقلاب يحمل رتبة فريق، وخلافاً لتأثر أو إستلهام عبد الكريم قاسم ثم بعد ذلك عبد السلام عارف الذي ترأس حركة إنقلابية يوم 8 فبراير/ شباط 1963 وأسقط العهد القاسمي الذي كانت كوميديا “محكمة الشعب” التي عُرفت ﺑـ”محكمة المهداوي” أحد تميزاته. ثم إن الإنقلاب الذي قام به إبراهيم عبود نأى عن الهوى المصري وإكتفى بالتركيز على تحجيم السياسيين والحزبيين بإستثناء الذين إلتفوا حوله بغرض المسايرة كي لا تشملهم إجراءات التهميش. وهؤلاء هم تحديداً بعض زعامات حركة “الأنصار” و “الحركة الختمية”. لكنها كانت مسايرة إلى حين حيث أن العهد العبودي وفي ظل رئاسة الحكومة لهذا العهد التي يشغلها السياسي المرموق عبدالله خليل عسْكَرَ السودان وحلَّ الأحزاب وتسلَّم “المجلس العسكري” زمام الأمر، كما أمعن تهميشاً في رموز المجتمع السياسي من دون أن يستوقفه أن للروح الديمقراطية حضورها في الشعب السوداني تأثراً بالطقوس البريطانية. ولذا فإنه عندما ضاقت صدور المجتمع المدني الحزبي والسياسي ومعها حراك طلاب الجامعات ولم يجد رئيس وزراء ذلك العهد أي إمكانية لترويض الفريق عبود وجنرالاته، إلتقى زعماء الأحزاب بعد حادثة قتْل طالب جامعي من نوعية طلاب العهد البشيري، على شبه كلمة سواء وحرَّكوا الرأي العام الذي لم يعد يتحمل المزيد من الصبر. وما حدث نتيجة ذلك كان سقوط عهد الفريق إبراهيم عبود الذي دخل في تاريخ السودان المستقل على أنه العهد المؤسس لما تلاه من إنقلابات في السودان بدءاً بإنقلاب مجموعة من الضباط برتبة رائد يترأسهم العقيد جعفر نميري على عهد الأحزاب الذي عصفت الخلافات بمعظم أقطابه، فالمحاولة الفاشلة لضباط ذوي ميول وإرتباطات بالحزب الشيوعي السوداني ضد نظام نميري، فعودة للحُكْم المدني برئاسة أنصارية ـ ختمية إنقضَّ عليها الإسلاميون من خلال رأس مدني (الدكتور حسن الترابي) ويد عسكري (اللواء عمر البشير) تلاها إنقضاض اليد على الرأس وبذلك إنتهى الشيخ الترابي سجيناً أحياناً وكثير الإغتراب في المنافي الفكرية والدعوية من حين إلى آخر، وإنفرد البشير بسلطة دامت ثلاثين سنة تُوِّجت بالحدث الأهم في تاريخ السودان بعد الإستقلال من بريطانيا وعن مصر، والمتمثل بإنشطار السودان إثنين بالإتفاقية الموقَّعة بين جنرال الشمال عمر حسن البشير وجنرال الجنوب سيلفاكير الذي بات رئيساً ﻟ “دولة جنوب السودان”. واللافت أن هذا الإنشطار حدث في ظل عهد الإسلاميين مع بعض التحفظات الخجولة لقيادات مدنية أطاح بها الرئيس البشير كما أنه حدث ومن دون أن يشكِّل الإنقلاب أسباباً موجبة للإنتفاضة الشعبية إحتجاجاً على شطْر الوطن كتلك التي حدثت مطلع يناير/ كانون الثاني 2019 ضد العهد البشيري ـ الإسلاموي أو “عهد ثورة الإنقاذ” إحتجاجاً على مسائل إجتماعية ومعيشية وتضييق لهامش التعبير وإبداء الرأي. كما اللافت أيضاً وأيضاً أن الضباط الذين ظهروا فجأة في المشهد الإحتجاجي وأبدوا تعاطفاً مع المجتمع المدني المنتفض ثم خلعوا الرئيس عمر البشير تمهيداً لإزالة عهده، لم يسبق أن سجَّل أحد منهم إحتجاجاً معلناً على ما فعله البشير تشطيراً للوطن وكانوا بذلك كما الرأي العام وسائر أحزاب السودان مع خيار الإنشطار وهذا قلَّل من وهْج الإنتفاضة التي قياساً بتناسل الإنقلابات ستؤسس لإنقلاب جديد.
ثم ماذا عن الإنقلاب اليمني الذي قاده العقيد عبد الله السلال وما كان ليصمد لولا دخول مصر الناصرية طرفاً مسانداً للإنقلابيين الذين أعلنوا اليمن جمهورية إنما من دون حسْم المواجهة مع آخر رموز الحُكْم الملكي وليّ العهد محمد البدر. وطالت المواجهة بين الجمهورية المدعومة من مصر عبد الناصر والمجموعات الملكية التي تساندها المملكة العربية السعودية وكانت إذا جازت المقارنة كما المواجهة الدائرة على أرض اليمن منذ خمس سنوات بين الحوثيين المدعومين من إيران الخامنئية، والذين أحكموا القبضة على العاصمة والمرافق الحيوية، ورموز الشرعية اليمنية التي تساندها قوات مشتركة من دول تحالُف السعودية ودولة الإمارات والسودان فضلاً عن مساندة غير مباشرة من مصر، وكأنما كُتب لليمن كما لسوريا ولبنان البقاء ساحات لإقتتال الآخرين على أراضيها. وكما طالت الحرب اليمنية ـ اليمنية الأُولى فإن الثانية لا تبدو سائرة على طريق نهاية حاسمة لكل من الأطراف المسانِدة.
وعموماً فإن الإنقلاب اليمني لم يكن الأول ذلك أن محاولة الإنقلاب التي حدثت عام 1948 بقيادة عبدالله الوزير ضد آل حميد الدين فشلت من حيث إمكانية تحقيق الأهداف حيث أنها إقتصرت على مقتل الإمام يحيي حميد الدين، إلاّ أنها كانت بمثابة تجربة أُولى للتغيير بالفعل الإنقلابي الذي تكاثرت جولاته وصولاته وضحاياه على مدى سبعة عقود يمنية. ومن هذه الجولات ما فعله الإمام أحمد حميد الدين الذي إنتقم للإمام يحي ولم يمكِّن الوزيريين من الإستحواذ على اليمن. ثم رحل الإمام أحمد، وطُويت بالرقم الخمسين صفحة عدد الأئمة في اليمن بدءاً بالإمام هادي يحيي بن الحسين، تاركاً من تراثه الشعري قصيدته الشهيرة في ذم الإشتراكية التي إستهدف بها التأميم الذي إعتمده عبد الناصر في مصر ثم جاراه في ذلك الإنقلابيون الثوريون في الجزائر وسوريا بوجه خاص، إنسجاماً مع الخط الإشتراكي. كما أن التراث الإمامي يشمل قصيدة شهيرة للإمام يحي حميد الدين يمتدح فيها القات الذي يمضغه اليمنيون عموماً بدءاً من ظُهر اليوم وحتى الغروب. ولا يخفى المضغ على أحد لأن خدود الماضغين تكون متورمة نسبياً. ولقد ساعدت الفضائيات العربية من خلال نقْل الصور الحية عن المواجهات وكذلك عن أحوال المقاتلين والشعب اليمني عموماً، في رؤية منظر خدود اليمنيين المتورِّمة بفعْل المضغ.
ثم ماذا عن محاولات الإنقلاب ـ الأُوفقيرية (نسبة إلى الجنرال أُوفقير) التخطيط ضد ملك المغرب الحسن الثاني والشبيهة ببداية الإنقلابات اليمنية، وعن الإنقلابات الموريتانية والتونسية والجزائرية ولكل منها عقداؤها وتحالفاتها فضلاً عن إرتباطات خارج الحدود.
ثم أيضاً وأيضاً ماذا عن إنقلابات البعثيين على بعضهم البعض والتي كانت مسلسلاً من الفواجع سواء في سوريا ثم في العراق مع ملاحظة أنه بإمساك حافظ الأسد بالسلطة بعد إنقلاب، وإمساك أحمد حسن البكر بالسلطة بعد إنقلاب لم تعد الإنقلابات العسكرية واردة وإنما صراعات أهل البعث بين بعضهم البعض.
وخلاصة القول إن الإنقلابات العسكرية كانت مغامرات جنرالات وعقداء ورواد حنظلية في محصلتها النهائية وعادت على البلاد والعباد بما لم يخدم الإستقرار. وأنا في تركيزي بالذات على الظاهرة الإنقلابية في سوريا فلأن الإنقلاب الذي قام به الزعيم حسني الزعيم كان نموذجاً للإنقلاب الذي يصمد لبعض الزمن ويعكس المشاعر الدفينة غير الودية من جانب العسكر ضد المدنيين وأحزابهم. كما أن هذا الإنقلاب الذي حاولتُ قدْر الإمكان الإحاطة بالممكن والمتيسر من وقائعه وما تلاه من إنقلابات كان بمثابة إطلاق الإشارة لعساكر الأمة من أجْل أن يتقاسموا الحُكْم مع أهل السياسة، أو إذا أمكنهم الإستفراد بها، وتحويل رموز المجتمع السياسي إلى سلطات تنفيذية لهم. وأما واجب الحفاظ على السيادة وردْ الأذى الخارجي عن الأوطان فتلك مسألة فيها نظر.
مع الأمل بأن يفيد هذا الكتاب الآلاف من أبناء جيليْن لم يتسنَ لهم الإحاطة بظاهرة حدثت في زمن الأجداد وقاسى من تداعياتها الآباء وأصيبت البلاد بالكثير من الويلات، بدليل أن غواية الإنقلابات والتقلبات والولاءات وحالات جنون العظمة لدى بعض جنرالات تلك الحُقب الحنظلية كانت دراميديا، أي مزيج من الدراما السوداء بالكوميديا الأقرب إلى التهريج، بدأت في سوريا ولا تندثر… وكأنما كانت بداية حالة لا نهاية لها. أعان الله الأمة من هذه الغواية.
فؤاد مطر
بيروت ـ بين شتاء وربيع 2019