طلال سلمان

جامعة عربية »في« انتفاضة

وصلت انتفاضة الأقصى إلى جامعة الدول العربية، في القاهرة، محمولة على متن طائرات اف 16 الأميركية، وهي تقصف مخيمات اللجوء داخل الوطن الفلسطيني ومراكز شرطة اتفاق أوسلو وحتى السجون حيث لا يستطيع الضحايا المفترضون تجنّب الموت الإسرائيلي بالصواريخ الأميركية.
تهاوت المبادرات والوساطات والشفاعات التي تبرعت ببذلها بعض الجهات الرسمية العربية على أبواب الصد الأميركي الذي أكد ما لم يكن بحاجة إلى إثبات، أي التواطؤ مع السفاح الإسرائيلي »الجديد القديم« أرييل شارون وشركائه ومجمّلي صورته من سفاحي »اليسار« الإسرائيلي وبينهم على وجه التحديد شيمون بيريز وبنيامين أليعازر.
وإذا ما استثنينا المستهدفين مباشرة بالاعتداءات الإسرائيلية المفتوحة، إلى جانب الفلسطينيين، أي لبنان وسوريا، فإن سائر العرب، وبينهم المكبّل الإرادة بالصلح المنفرد، أو المهرول إلى شراكة مستحيلة مع قاتل الأطفال، أو المستعين على البلاء بالصبر وانتظار »تدخل« أميركي يجنّبه الحرج ويعفيه من التورط في نجدة أخوانه وتحمل النتائج، كانوا قد نجحوا في استيعاب الغضبة العربية العارمة مع تفجر الانتفاضة وتصدروها شكلاً ولفظاً ليحتووها من بعد، بالإعلان عن دعم لم يُدفع، وعن عودة إلى المقاطعة لم تتم، وعن تهديد بتدابير أخرى أقسى وأشد لم تُتخذ.
ومع كل التحفظات على الموقف الرسمي العربي الذي عجز طوفان الدم الفلسطيني عن إخراجه من دائرة الشلل بالرعب المزدوج من الانتقام الإسرائيلي والعقاب الأميركي، فإن إشراك طائرات أف 16 في محاولة اغتيال الانتفاضة، أشعر الأنظمة جميعاً بأن الحرب تدق أبوابهم وتكاد تقتحم عليهم غرف نومهم، وأن شارون لا يراعي أوضاعهم الدقيقة، وأن الإدارة الأميركية الجديدة تزيد طينهم بلة بإلحاحها الصارم عليهم بضرورة الاستمرار في تجويع العراقيين وإذلالهم، من غير أن تسمع شكاويهم من أنهم لا يستطيعون أن يشاركوا في حربين ضد العرب؛ في العراق وفلسطين في آن.
هكذا رأينا تحولات مؤثرة في الموقف الرسمي العربي سيكون من شأنها، إذا لم يتراجع عنها أصحابها، أن تخلق وضعاً جديداً يكسر طوق العزلة من حول الانتفاضة بما ينعش أبطالها في الداخل، ويتيح قدراً من حرية الحركة للجمهور العربي المقهور والممنوع من التواصل مع أخوانه المنذورين للموت داخل فلسطين.
فأما الموقف اللبناني السوري المشترك فقد حسم خياره منذ أمد بعيد وحاول وكرّر محاولاته مرات عدة بأمل تنوير سائر العرب وتحذيرهم من مغبة »الهرب« من مواجهة مفروضة بل ومحتومة، وها هي الوقائع الميدانية سياسيا وعسكريا تجيء لتؤكد صحة تحليله واستنتاجاته، وبالتالي تفرض التخلي عن دور »الوسيط« والانخراط في المواجهة (السياسية) بإرادة واعية ومن ضمن خطة للجم السفاح الإسرائيلي، بالصمود لا بالشفاعة، وبالضغط على واشنطن بدلاً من استعطافها والتذلل أمام الانحياز السافر لإدارتها وتبرعها بتغطية جنون الدم الإسرائيلي وتبريره.
وأما الموقف السعودي الحازم، الذي عبّر عنه ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز، برفض الدعوة الرسمية التي وجهتها إليه الإدارة الأميركية لزيارة واشنطن في ظل انحيازها الأعمى إلى حرب الإبادة التي يقودها شارون ضد الشعب الفلسطيني، فإنه يجيء في توقيته ومضمونه استجابة واعية للمطالبة الشعبية بضرورة توظيف »الصداقة العربية« للولايات المتحدة الأميركية، ولو مرة، في خدمة قضايا العرب المحقة، وبالذات في هذه اللحظة السياسية الحاسمة، في وقف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني فضلاً عن حقوقه في أرضه.
ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه، بعد، سوى قيودهم.
وليس لدى إسرائيل من أسلحة تفوق طاقتها على التدمير الطائرةَ الأميركية الهدية أف 16، وهي وقد جربتها في اللحم الفلسطيني فإنها قد أسقطت عنهم الرعب من احتمال استخدامها في مقابل حجارة الفتية الذين يقتحمون الموت بعيون مفتوحة طلباً للحرية والاستقلال والكرامة.
ولقد آن لعرب أوهام السلام أن ينتبهوا إلى أن تبرعهم بدور »الوسيط« يفقدهم احترام القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إضافة إلى أنه يزيد من حراجة علاقتهم مع شعوبهم… فالدماء التي تروي أرض فلسطين هي بعض دمائهم، ثم إن الشعور بالمهانة لعجزهم عن مدّ يد العون يقرّبهم من ساعة الانفجار بوجه هؤلاء الذين يمنعونهم عن إثبات وجودهم وجدارتهم بحقوقهم الوطنية والقومية سواء داخل فلسطين أو في أقطارهم ذاتها.
ولقد كانت لفتة ذكية من وزير خارجية سوريا فاروق الشرع أن يؤكد، من قلب مبنى جامعة الدول العربية في القاهرة، انطواء المبادرات جميعاً، وفيها أو بالذات منها المبادرة المصرية الأردنية، التي أسقطتها إسرائيل حتى من قبل أن تطلق طائراتها الحربية لإرهاب العرب جميعاً، من حول فلسطين، وأصحاب تلك المبادرة التي لم تكن في محلها، أصلاً، والتي بدا وكأنها تُضعف الموقف الفلسطيني. فالعربي، كل عربي، طرف بالضرورة قبل الرغبة، ومجرد ظهوره في مظهر »الوسيط« ينفع إسرائيل بقدر ما يضر بانتفاضة الأقصى ويسيء إلى صورة »التضامن العربي«.
في أي حال، فإن لبنان الذي يعيش أجواء احتفاله بالعيد الأول لنصره العربي على الاحتلال الإسرائيلي، هو أكثر من يستشعر الوجع الفلسطيني من ضعف الإسناد العربي… فلطالما تألم من اللجم الرسمي لأي تحرك شعبي عربي دعماً لمقاومته المجيدة، تماماً كما يتألم أبطال الانتفاضة في فلسطين اليوم، وهم يتشوقون إلى أي مدد، بالتظاهر إذا عز المال، وبالمال إذا عز السلاح، وبكسر جدار الحصار من حولهم حتى لو كان بحراسة صواريخ طائرات الأف 16 الأميركية الإسرائيلية.
ومرة أخرى، إنها حرب أميركية إسرائيلية على كل العرب، وليست حرب شارون وحده على شعب فلسطين وحده.
وعسى القرار الذي اتخذته لجنة المتابعة العربية في الجامعة يوم السبت، يكون خطوة أولى على طريق المواجهة المديدة، التي برغم كلفتها ستظل أقل كلفة من الهرب… المستحيل!

Exit mobile version