طلال سلمان

جامعة”الدول”في خمسينها

أن تبقى جامعة الدول العربية قائمة، بعد نصف قرن من ولادتها المبكرة (؟) بينما الغائب الأكبر في دنيا العرب هي »الدولة«،
لقد وُلدت أو استُولدت هذه الجامعة على يد خمس من الدول العربية التي سرعان ما صارت سبعù، مع نهاية الحرب العالمية الثانية… وعبر العقود الخمسة تضاعف عدد »الأعضاء« ثلاث مرات، لكن جامعة ال21 دولة ليست أحسن حالاً من جامعة الدول السبع، إذ لا علاقة للعدد بتحسين المستوى ولا حتى بتحسين »الدخل« الضروري لاقامة الأود!
الكل يشكو من ضعف الجامعة، من شحوب دور الجامعة، من عجز الجامعة عن التدخل لوقف التدهور أو لمنع التردي، لكن الجميع ينظرون إلى ويحاسبون النتيجة ويغفلون أو يتغافلون عن السبب.
إن »الدول« بمعظمها ليست دولاً، بالمعنى المتداول والمألوف لكلمة »الدولة«،
فالكيانات، بغالبيتها، مصطنعة أو مبتدعة، أوجدتها حاجات الأجنبي أكثر مما جاءت تلبية أو تعبيرù لارادة شعبية. بعضها اصطنع لارضاء عائلة حاكمة فقدت عرشها الهزيل في خضم الصراعات الدولية، وبعضها الآخر استولده النفط، واتخذت حدود الحقول بل الشركات النفطية حدودù سياسية تجسّد السيادة والاستقلال ويطلب إلى الرعايا أن يموتوا في الذود عنها… وثمة بعض ثالث ظهر إلى الوجود نتيجة منازعات قبلية وجدت مَن يغذيها بالمضامين الإيديولوجية المعقدة فإذا هي »دول« لها جيوشها العقائدية وأحزابها الحاكمة في بلاد بلا موارد وبلا سكان، كالتجربة البائسة في عدن.
أما الدول العريقة، كمصر والمغرب، فكانت وما تزال أقلية ضئيلة وسط حشد من الكيانات السياسية الهزيلة التي استولدت على عجل، وفي الغالب الأعم لمنع قيام دول (أو دولة) قوية فوق الأرض العربية.
وليس غريبù أن يفشل العرب في رفد جامعتهم بأسباب القوة والحياة، وفي تحويلها إلى إطار جامع لتطلعاتهم الوحدوية أو التضامنية في المجالات الحيوية.. فالمؤسسات التي ولدت في رحم الجامعة كالوحدة الاقتصادية العربية، وميثاق الدفاع العربي المشترك (والقيادة العربية الموحدة)، وسائر المنظمات التي كانت »إعلان نوايا« عن التوجه إلى ما يفيد الجميع ويرسخ صلة الرحم أو المصالح المشتركة في ما بينهم، تهاوت أو بقيت مجرّد لافتات على مبان يتلاقى فيها مجموعة من الموظفين ولا إنتاج، فإذا ما أنتجوا فلا أحد يريد إنتاجهم أو ينتفع به.
كيف تقوم جامعة للدول حين لا دول؟!
فعند العرب عمومù الحاكم أهم من الحكم والحكم أهم من الدولة، وغالبù ما يتم اختصار »الدولة« في شخص الحاكم، ويفرض على »الدول« الأخرى التعامل مع مزاجه الشخصي الذي تحكمه في العادة قاعدة »يوم النحس ويوم السعد« الشهيرة!
ثم إن الجامعة لم تمكّن أبدù من أن تصير مؤسسة قوية، مستقلة عن الحكومات وصاحبة سلطة معنوية على كل منها لأنها تمثل مجموعها وتنطق بإرادتها المشتركة وبمصالحها المشتركة؟!
والجامعة كانت تستمد قوتها من مقرها، أي من قوة القاهرة بوصفها عاصمة أكبر الدول العربية وأقواها وأعرقها في الأخذ بنظام للحكم له مؤسساته وبرنامجه وسياساته في الحرب والسلم،
الجامعة هي »حال العرب«،
فكيف تكون قوية وكلهم ضعفاء، ومتفرقون إلى حد التورّط في حروب مع الذات؟!
وكيف تتماسك والأغنياء من أعضائها يهربون بثرواتهم من إخوانهم الفقراء فيها، وبعض هؤلاء الفقراء يذهبون بالنكاية إلى حد مصالحة العدو والانضمام إليه ضد أمتهم؟!
إنها رهينة أمزجة الحكّام ومصالحهم الشخصية. وغالبù ما أذلها السفهاء من الناطقين باسم حكّام النفط، ووصل الأمر أحيانù إلى حد محاسبة أمينها العام على نفقات مصاريفه الشخصية؟!
* **
في فرنسا سينتقل الحكم خلال أسابيع من اليسار إلى اليمين، من الحزب الاشتراكي إلى الديغوليين، كما تدل الترجيحات. لكن سياسة فرنسا في الجوهري من المسائل، لن تتبدّل. لن تنسحب فرنسا مثلاً من الوحدة الأوروبية، بل سيكمل الحكم الجديد ما كان بدأه »العهد السابق« لأن الدولة مستمرة بغض النظر عن شخص الحاكم، والمصالح الوطنية العليا لا تتبدّل بتبدّل أشخاص الوزراء، أو حتى الرؤساء.
أما عند العرب فأسهل الأمور أن تخرج »دولة« من إطار الجامعة إلى تجمع أو تكتل جهوي تقبل فيه مع عدد محدود ما ترفضه داخل إطار الجامعة… ثم سرعان ما تغدو التكتلات الإقليمية بدائل عن الجامعة، ولو إلى حين، فإذا ما انتفت الأسباب »الشخصية« والمصالح الأجنبية التي دفعت لاقامتها تهاوت واندثرت، بغير أن تفيد الجامعة من هذا الاندثار أو تعوّض عن الانفصال »المزاجي«،
وفي آخر التطورات العربية: يقدم حاكم عربي أو أكثر على التحالف مع العدو الإسرائيلي ويتوغل معه في مشاريع »وحدوية« تمتد من المياه إلى الكهرباء والهاتف وشبكات الطرق والمعابر الجوية، في حين لا يقبل بدخول مواطن من »القطر الشقيق المجاور« بغير تأشيرته ولا هو يسمح له بالتملّك أو بحرية التنقل إلا بإذن خاص من المخابرات؟
العرب يخرجون من جامعتهم إلى العدو، فكيف تكون لهم جامعة وقوية؟!
لكن خطب اليوم والغد في القاهرة ستقول كلامù آخر… كالعادة!
وسيكتفي الأمين العام الهادئ بأن يهز رأسه ممتنù لهؤلاء الذين لبّوا دعوته فجاءوا ليطفئوا معه الشمعة الخمسين.
فمن زمان بات الشكل أهم من المضمون، وليس بالإمكان أبدع مما كان، والحمد ” الذي لا يحمد على مكروه سواه!]]

Exit mobile version