طلال سلمان

ثورة مصر واقع عربي

اشتعل الليل العربي بأنوار ثورة مصر…
خرجت الجماهير العربية مع إعلان الجيش المصري «تخلي» الطاغية عن «عرش المحروسة»، في عواصم الدنيا العربية وأريافها إلى الشوارع بغير دعوة أو استدعاء لتقول إن لها نصيبها من الفرح بقدر ما كان لها نصيب من الخيبة والمرارة والشعور بمهانة الانكسار طوال دهر غياب مصر عن ذاتها وعن دورها القومي..
على أن المشهد السياسي على المستوى العربي كان مختلفاً تماماً عنه في الشارع، بل لعله كان أقرب إلى النقيض، إذ ساد الوجوم في البداية، ثم بدأ بعض أهل النظام العربي يدلون ـ مباشرة أو بطريقة ملتوية ـ بتصريحات تغمغم كلمات تتمنى فيها الخير لمصر و»تجاوز المحنة» و»تخطي المصاعب» و»العثور على طريق السلامة»!
أما على المستوى الدولي فقد قفزت واشنطن، منذ الساعات الأولى، إلى دور «الناصح الحريص» على مصلحة النظام الذي كان يتهاوى ورأسه المترنح… فلما كابر وأظهر شيئاً من «التمرد»، انتقلت إلى «تعنيفه» بلهجة ترشح بإنذار صريح بأنها سوف تتخلى عنه، ملوحة بعلاقاتها الوثيقة مع قيادة الجيش، منوهة بحكمتها في التعامل مع الغضبة الشعبية. أما حين مضى في مكابرته مطلقاً ألسنة بعض رجاله في إيوانه، وأبرزهم وزير خارجيته الفصيح، في خطاب «استقلالي» طارئ على لغته وأدبياته فقد رد عليه الرئيس الأميركي شخصياً مدعياً أبوة الانتفاضة ورعايتها المطلقة وتنسيبها إلى معسكره المخصص لرعاية مزارع الديموقراطية المهجنة في العالم الثالث عموماً والوطن العربي بشكل خاص.
ومع انتصار ثورة مصر باشر باراك أوباما تقبل التهاني ليوهم المصريين بأنهم قد نجحوا في «امتحان القبول»، غير عابئ بقلق «أصدقائه» الآخرين من أهل النظام العربي الذين كانوا يستصرخونه لتجنيبهم شرب هذه الكأس المرة، بأن يتولى حماية «الطغيان الشقيق» وقد كان لهم السند والملاذ المعنوي: أليس هو كبيرهم الذي تقدمهم على الطريق إلى واشنطن بأمانة الالتزام بخط سلفه مقتحم الحرام بزيارة العار إلى القدس تحت الاحتلال تمهيداً لمعاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي؟!
إن مراجعة البيانات الرسمية الصادرة عن مختلف أركان النظام العربي تكشف مدى رعبهم من انتقال روح الانتفاضة، بعدوى الجوار ووحدة المصير، إلى «رعاياهم» الذين يعيشون في أحوال لا تقل سوءاً عن تلك التي تسببت في انفجار الثمانين مليوناً من المصريين في وجه نظامهم الفاسد المفسِد… حتى من قبل أن يكشف «الغرب» عن حقيقة الثروة التي نهبها حكم الطغيان في مصر المحكومة بأن تبقى غارقة في فقرها حتى لا يخطر ببال أهلها أن يثوروا ودولتهم مفلسة ومرتهنة الإرادة وفي يد العدو الإسرائيلي صكوك رهنها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.. (حتى لا ننسى أنابيب الغاز المصري وأنابيب النفط المصري التي تقدّم، بالأمر، لكيان العدو، وبأسعار تكاد تكون رمزية).
أليست أكثرية هؤلاء، أركان النظام العربي، واحداً في الطغيان؟!
أليس الكل في نهب الثروة الوطنية واحداً، لا فرق بين أن تكون «الدولة» المعنية غنية بنفطها أو برجالها، بالغاز أو بالكفاءات العلمية والمهارات الفنية والقدرات المؤهلة لبناء الدول… للآخرين؟!
أليس الكل على باب البيت الأبيض يطلبون الرعاية والدعم و»لجم التطرف الإسرائيلي» الذي يحرجهم مع شعوبهم التي تنظرهم وهم يشجعون صعاليك السلطة الفلسطينية المضيّعة هويتها وقضيتها، على المضي قدماً في طريق التفاوض العبثي… خارج الموضوع، أي خارج المكان، الأرض المقدسة، وخارج حلم الدولة المستحيلة التي تلتهمها على مدار الساعة المستوطنات التي تتوالد من ذاتها لتتسع لمئات ألوف المستوطنين الجدد اللازمين لدولة اليهود الديموقراطية؟
كيف إذن لا يتآكلهم الخوف وهم يرون كبيرهم الذي علّمهم الصلح مع العدو عبر التودد للبيت الأبيض طلباً للرعاية الأميركية، يتهاوى ثم يهوي تحت ضغط الجماهير و»تواطؤ» الجيش معها عليه، وكبار ضباط هذا الجيش قد تلقوا التدريب على أيدي أساتذة الأركان في الكليات العسكرية الأميركية، فضلاً عن كونهم يتمتعون بامتيازات خرافية لتثبيت ولائهم للنظام المطمئن إلى حمايته الكاملة بدءاً بواشنطن وانتهاءً بالمواقع القيادية التي منحها للموثوقين منه المبهورين بالتفوق الأميركي الكاسح؟!
حاشية: تتطاير حالياً عشرات النكات عن المستقبل المهني لأركان النظام العربي الذين أفقدتهم ثورة مصر القدرة على النوم وخلخلت اطمئنانهم إلى «ولاء» رعاياهم و»انضباط» قادة جيوشهم… ومن أسف فإن معظم أركان هذا النظام العربي لا يملكون من المؤهلات، العلمية أو المهنية ما يضمن لهم حياة مريحة، لولا السلطة، فمن أين جاءتهم العبقرية التي قفزت بهم إلى صفوف أصحاب المليارات؟!
[ [ [
ليس المصريون من أهل الفصاحة في الحديث عن العروبة وكل ما اتصل بها سياسياً كوحدة المصير، في الماضي والحاضر ولا سيما في المستقبل.
وربما أخذ العرب خارج مصر على الناطقين باسم هذه الثورة الشعبية المباركة أنهم لم يكثروا من ذكر العروبة أو فلسطين تحديداً (وهي التي تختزن المعنى)، كما أن العدو الإسرائيلي لم يحضر بما يتوازى مع خطره كقوة احتلال لفلسطين ـ عسكرياً ـ وللوطن العربي جميعاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً، عبر التماهي الكلي مع مشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة جميعاً.
بل لعل الكثير من العرب قد فاجأه فأخافه النص في البلاغ الرقم 4 الصادر عن القيادة العليا للقوات المسلحة المصرية حول «احترام المعاهدات والاتفاقات الإقليمية والدولية المعقودة مع الدول الأخرى»، مفترضين أن شرط الثورة الإلغاء الفوري لكل ما عقده «العهد البائد» من اتفاقات إذعان مع العدو الإسرائيلي… واستطراداً مع المهيمن الأميركي.
بالمقابل فإن الكثير من المصريين المعتزين الآن بأنهم استعادوا حقهم بالقرار يتحسسون من «هجوم» العرب عليهم فوراً بمطالب يرونها تعجيزية، خصوصاً أن ثورتهم الوليدة لم تستقر بعد على صيغة محددة للحكم… فدولتهم بمختلف مؤسساتها في حالة شلل، وكان يتهددها إلى ما قبل أيام مخاطر جدية بالتفكك لو لم يحسم الجيش الموقف فينقذ الدولة والشعب معاً.
والحقيقة البسيطة أن الثورة شعبية بالمطلق، لم يسبقها إعداد منظم ولم يحضّر لها حزب أو جبهة سياسية تواكبها أكثرية شعبية منظمة لها برنامجها المعلن الحائز على تأييد واسع يداني الإجماع وليس عليها فور تسلمها السلطة إلا المباشرة بتنفيذه.
يتصل بهذه الحقيقة أن إعادة بناء مؤسسات الدولة بالثمانين مليوناً وأكثر من مواطنيها هي مهمة في غاية الصعوبة في الأحوال العادية، فكيف والحالة في الداخل معقدة جداً بحسب ما يشرحه على مدار الساعة أهل الرأي والخبراء في الفقه الدستوري وأهل القانون فضلاً عن الخبراء في الاقتصاد والاجتماع… خصوصاً أن المال العام منهوب، بالمليارات، ومختلس، بالمليارات، مما يزيد من بؤس مالية الدولة التي تحتاج، في هذه اللحظة، إلى إنعاش سريع لا يبدو أن من يملكون القدرة مستعدون لبذله إلا بشروط قاسية توفر لهم الأمان المهزوز الآن.. وكيف؟! بإسقاط شعار التغيير الجذري عبر التحايل عليه بواقع الحال (العين بصيرة واليد قصيرة)، أو ببعض التعديل في سلوك النظام بما يرضي الفتية الذين تعميهم حماستهم عن اكتشاف استحالة التغيير الجذري المتناسب مع ثوريتهم وتعجُّلهم الإنجاز!
[ [ [
مع ذلك فإن ثورة مصر إنجاز تاريخي عظيم، وهي تشكل ـ بزخمها وصدقية فتيتها الأبرار ـ فجراً لمرحلة جديدة في تاريخ هذه الأمة.
لقد طوت هذه الثورة المجيدة، عبر انتصارها الباهر بإسقاط نظام الطغيان، صفحة الفتنة التي كانت تتهدد روح الأمة ووجودها، داخل مصر ذاتها كما داخل معظم الأقطار العربية، تارة بين الأديان، وطوراً بين الطوائف والمذاهب نزولاً إلى العشائر والقبائل ببطونها والأفخاذ..
لقد طهّرت النفوس وأعادت الروح إلى الأمة، وأعادت معها الوعي بالذات وبالظروف المحيطة.
إنها الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، لكنها كانت كافية لإخراج مصر ومعها الأمة جميعاً من ليل اليأس إلى فجر الأمل.
ولسوف تتوالى الخطوات، دون تعجّل، والضمانة أساساً في هذا الوعي الباهر، وهذا الإصرار غير المسبوق على تحقيق الإنجاز، وهذه العبقرية في التنظيم وفي التماسك التي أظهرها هذا الشباب الذي استولد الفجر الجديد في مصر فأنار طريقها إلى غدها ومعها سائر المقهورين بأنظمـــة القمع والتخلف في سائر ديار العرب.

Exit mobile version