طلال سلمان

ثورة مصر مواجهة مصاعب تغيير

لبنان في إجازة من «السياسة» بمعناها الفولكلوري، لكن اللبنانيين يعيشون قلقاً عظيماً وهم يتابعون وقائع التطورات الخطيرة التي تشهدها الأقطار العربية من حولهم، بدءاً بسوريا التي يتسبّب التأخير في معالجة الأزمة السياسية الحادة فيها في تعقيد الحلول المقترحة لها، وصولاً إلى اليمن والبحرين وتونس (من دون أن ننسى السودان) مع وقفة مطوّلة أمام التصادم المؤذي الذي وقع في اليومين الماضيين بين بعض «الميدان» والقيادة العسكرية في مصر، والذي يشوّش على صورة «الثورة» ومسارها الذي يرى فيه الجمهور العربي مصدراً للأمل بغد أفضل.
ومع وعي اللبنانيين بأن حركة التغيير التي تطمح إليها جماهير الميادين في مختلف الأقطار العربية لا بد أن تواجه صعوبات عاتية لم تستعد لها، سواء من داخل الأنظمة التي سقطت رؤوسها وبعض رموزها لكنها لما تسقط فعلياً، فإن اطمئنانهم إلى مسيرة الثورة العربية قد اهتز، وعادت الأسئلة التي كان قد طمسها الفرح بإنجاز التغيير أو بقرب اكتماله، تطرح نفسها بإلحاح على اللبنانيين كما على سائر العرب في مختلف أقطارهم.
ولعل الحشد الذي قصد إلى منزل السفير المصري في بيروت، مساء يوم الجمعة الماضي، للاحتفال بالذكرى الستين لثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر، قد أكد ـ مرة أخرى ـ ليس مكانة مصر في نفوس اللبنانيين فحسب، بل كذلك وأساساً الأمل المعقود على ثورة الميدان في استعجال غد عربي يليق بكرامة الإنسان العربي.
[ [ [
يحاول العرب العودة إلى التاريخ بالثورة بعدما كادت تخرجهم منه أنظمة الاستبداد التي حكمتهم تحت ذريعة أنهم أمة مهزومة.
كان الطريق الإجباري أمامهم لتأكيد جدارتهم بالحياة: النزول إلى الشارع لإسقاط تلك الأنظمة التي أخرجتهم من هويتهم الجامعة، وحقّرت قضيتهم المقدسة، وامتهنت كرامة إنسانيتهم، وطرحت الأرض الوطنية في المزاد الدولي المفتوح.
ولقد نزلت الملايين إلى الشوارع بمطامحها ومطالبها تقودها إرادة التغيير وإسقاط الأنظمة التي ملأت الأرض فساداً ودمّرت مقوّمات الدولة وعملت على زرع أسباب الانقسام والفتنة بين الناس ليمكنها ـ من بعد ـ تقديم نفسها بصورة «ضامن السلامة الوطنية» و«حامي حمى الوحدة الوطنية» فضلاً عن الادعاء أنها الطريق إلى التقدم واللحاق بالعصر وحصولها على مكانة مميزة في المجتمع الدولي.
وإذا ما اتخذنا من ثورة مصر نموذجاً لأمكننا أن نحدّد منهجاً لفهم خريطة التحوّلات التي تشهدها «المحروسة»، والتي قد تثير القلق أحياناً، ولفهم ما يجري من محاولات للتغيير في مناطق عربية أخرى، في مواجهة أنظمة تهدد شعوبها بأن بديلها هو الحرب الأهلية.
لم تقرأ الملايين كتب فلاسفة الثورة في جهات العالم المختلفة، ولم تقرّر لنفسها هوية ثورية محددة. كانت تريد إسقاط النظام الذي تراه يسد عليها الطريق إلى ذاتها وإلى قدراتها كما إلى حقوقها في وطنها.
كان قد مضى على هؤلاء الملايين من الرعايا عهد طويل من «الاستقرار» الذي يكاد يكون موتاً، وإن تأخر إعلانه.
في ظل «الاستقرار» الذي تقوم على حراسته أجهزة أمنية عديدة مهمتها أن تعتبر كل رعية «خائناً» أو «عاصياً» أو «متآمراً» إلى أن يثبت العكس، كانت «السياسة» من اختصاص أهل النظام وحدهم، وكذلك الاقتصاد، وعلى الرعية أن تتابع نشرات الأخبار الرسمية فتعرف ما عليها أن تعرفه، ثم تنصرف إلى شؤونها تاركة القرار لأصحاب الحق في القرار.
انطفأ المعنى في كلمات الخطاب الرسمي. لم تعد الدولة دولة الناس. صار للدولة «أصحاب». لم تعد الأحزاب أرض لقاء فكري ـ سياسي حول حقوق الناس. دجّن النظام أحزاب التغيير حتى غيّرت خطابها ليصير نقيض برنامجها، صار بعضها من الماضي وفيه، وصار بعضها الآخر في أجهزة الأمن ومنها، وصار بعض ثالث معادياً للتغيير، يجهر بولائه للنظام ويدين علناً ماضيه النضالي.
لم يعد للوطن وأهله حضور، وابتلع النظام الدولة. لم يعد الجيش معقد الأمل في التحرير. صار أكبر مؤسسة للتوظيف، وصار لضباطه امتيازات هائلة تجعلهم عبيداً عند النظام، حراساً إضافيين لأمنه في الداخل. انتفت مهمته النضالية، وأخرج من دائرة الفعل. صار جيش السلطة. صارت الجندية وظيفة ذات راتب مجز على قاعدة من يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه.
[ [ [
تعيش حركة الثورة العربية حالة من الاضطراب والقلق في مختلف الأقطار التي صارت شوارع عواصمها والمدن مركز القرار.
لقد تلاقى الناس البسطاء، ممن استعادوا الحق برتبة المواطنين، أصحاب البلاد، على الهدف، ولكنهم لما يفرغوا من الاتفاق على برنامج التغيير، ومراحله. كان عليهم أن ينجزوا هذا الاتفاق في الميدان. كان عليهم أن يواصلوا نقاشاتهم، وأن يحاولوا الوصول إلى خطة عمل ما بعد إسقاط النظام وهم يواجهون «مؤسساته» العاتية والراسخة بحكم الزمن والخبرات.. والأخطر: بحكم موقع النظام على خريطة المصالح الدولية.
والأنظمة التي واجهوا ويواجهون تقع في قلب شبكة هذه المصالح.
وشباب الميدان وطنيون، يرفضون الارتهان للخارج، ولا يقبلون وصاية الإدارة الأميركية التي بدّلت لغتها في ليل، فتخلت عن تلك الأنظمة التي كانت في موقع الحليف والصديق والشريك الموثوق والمؤتمن على المصالح.
ثم إن شباب الميدان ـ وفي مصر على وجه التحديد ـ لا يثقون بقيادة الجيش التي تحركت في اللحظة الأخيرة فسمحت بإسقاط رأس النظام، في محاولة رأى فيها الشباب التفافاً على هدف الثورة في التغيير الشامل.
كما أن شباب الميدان ليسوا موحّدي الأهداف والرؤية لمرحلة ما بعد إسقاط النظام. أكثريتهم الساحقة من الوطنيين، وفيهم شريحة عريضة من الإسلاميين، إخواناً وسلفيين، وفيهم من يعتبرون الثورة الأميركية نموذجاً للاقتداء به، ومنهم من هو معجب بالتجربة التركية، والثورة الفرنسية إلخ..
كذلك فبين شباب الميدان من يريد إعادة الاعتبار إلى ثورة جمال عبد الناصر التي نعيش ذكراها الستين، مع تجنّب تكرار أخطائها.
إنهم يريدون استعادة جمال عبد الناصر من دون نظامه. إنهم يؤمنون بعروبة مصر، باعتبارها بين ضمانات الدور الاستثنائي لمصر، أحد مصادر قوتها دولياً، فضلاً عن كونها تؤكّد هويتها الوطنية.
وهم يرون في إسرائيل عدواً وطنياً وقومياً، وهم بالتأكيد مع حقوق شعب فلسطين في أرضه، لكنهم لا يرغبون في رفع شعارات ذات دوي لا يملكون القدرة على تحقيقها في اللحظة الراهنة.
وهم يعرفون أن أهل النفط العربي ليسوا مع الثورة، قطعاً، وليسوا مع شباب الميدان… بل إن هؤلاء يسعون لدعم القيادة العسكرية، بوصفها امتداداً لنظام حسني مبارك (ويبذلون مساعيهم الكريمة لمنع محاكمته)، في وجه «الميدان». كما أنهم وضعوا شروطاً «أخوية» لتقديم «النجدة» التي تحتاجها مصر ـ الثورة اقتصادياً.
ويمكن سحب موقف أهل النفط من الثورة في مصر على كل الانتفاضات الشعبية في مختلف أرجاء الوطن العربي، مع التنويه دائماً بأن هؤلاء اندفعوا من موقع المتعاطف مع «ثوار ليبيا» إلى حد المشاركة مع الحلف الأطلسي في الحرب على نظام القذافي، بهدف تأمين النفط واستمرار تدفقه إلى الغرب، مع وعيهم بأن خطر التقسيم بات شبه مؤكّد، وما العلم الملكي ذو الألوان الثلاثة إلا «المقدمة الموسيقية» للواقع الذي سوف يُفرض على شعب ليبيا (إعادة الولايات الثلاث، برقه، وطرابلس وفزان) إلى التداول.
[ [ [
الثورة في خطر.
هذا صحيح بقدر ما أن الثورة هي فعل تغيير للواقع القائم، هادر كرامة الأوطان، ماسح كرامة الشعوب، ومصدر الخطر على هذه «الدول» التي أثبتت الوقائع أنها لم تكن في أي يوم دولاً، بالمعنى المألوف للكلمة، كما أنها لم تكن لتحقيق مطامح شعوبها وحقوقها في أوطانها.
ولسوف تخوض هذه الثورات تجارب قاسية قبل أن تبلور خط سيرها إلى أهدافها… وقد تحصل فيها انشقاقات وتصادمات مع قوى الماضي، وحول خط السير إلى المستقبل.
لكن التاريخ يعلّمنا أن الثورة لا تتكامل إلا بالثورة.
وهذا ما نتوقعه من ثورة مصر التي جددها شعبها في ميدان التحرير، وهو يعطيها كل يوم زخماً إضافياً لتتقدم نحو إنجاز أهدافها.

Exit mobile version