طلال سلمان

ثورة مصر في لبنان

زلزلت ثورة مصر، بعد انتفاضة تونس مباشرة، الأرض العربية بمشرقها ومغربها، فاندفع أهل النظام العربي ينافقون شعوبهم بتنازلات فورية عن التمديد والتجديد والتوريث كما عن سلطاتهم المطلقة، الدكتاتورية بطبيعتها… إلا في لبنان الذي تسترهن الطبقة السياسية شعبه بالطائفية والمذهبية وتشغله بالخوف من الفتنة وبالقلق على وحدته عن مطالبته المشروعة بـ«الدولة» وبالديموقراطية، أي بأن يكون «مواطناً» وليس «رعية».
لم يتوقف أركان هذه الطبقة السياسية، ونصفها وارث ونصفها الثاني مرشح لأن يغدو مورثاً، أمام الدلالات العميقة لهذه التحولات العميقة التي تخلخل مرتكزات وجود بعض الدول العربية التي قامر حكّامها بوحدتها (اليمن ومن قبله السودان وعسى ألا يكون العراق ثالثاً..)، في حين أنها ألجأت حكاماً آخرين إلى الانفجار غضباً في وجه الإدارة الأميركية التي كانوا يفترضون أنها مصدر حمايتهم فإذا هي لا تحمي غير مصالحها، وأبرز عناوينها إسرائيل كركيزة لمشروع هيمنتها الإمبراطوري.
لم يتابع أركان هذه الطبقة، ومعظمهم جاهل بالتاريخ ومستهين بتأثير الجغرافيا، المشاهد النادرة لبروز جيل الشباب كقيادة مؤهلة للإمساك بالقرار في بلادها، وقد نزلت إلى الميدان لتفرض التغيير بإرادتها وصمودها ووعيها بفداحة التدمير الذي ألحقه الطغيان بالوطن ودولته.
لم تهتم هذه الطبقة السياسية، وبين قياداتها من لا يقرأ، وبينها من لا يرى في المرآة إلا طلعته البهية، ومن ينظر إلى «الرعية» كقطيع، يمكن استجلابه بالطائفية أو بالمذهبية وباستعدائه على «القطعان» الأخرى مما يوفر له القفز إلى السلطة باسم حقوق الطائفة أو المذهب المهددة إن جاء غيره…
لم تهتم هذه الطبقة بأن تتابع كيف صنعت أجيال الشباب في تونس، ثم في مصر بصورة أكثر وضوحاً وأعظم شمولاً وأدق تفصيلاً، ملامح مستقبل وطنها ودولته بعد إسقاط حكم الطغيان… وقد تبدى عارياً: فالطاغية ليس جلاداً فحسب وإنما هو زعيم عصابة تتولى نهب الثروة الوطنية، أي عرق جباه الملايين من «رعاياه» ومصادر رزقهم سواء أكانت أرضاً أم مصانع أم مصارف أم مؤسسات ملكيتها للقطاع العام.
لم يعبأ أركان هذه الطبقة بما سمعوه عن ثروة زين العابدين بن علي والسيدة ليلى الطرابلسي، قرينته ومعها شقيقها ومع الشقيق زمرة «السيد الرئيس» والعائلة، وكيف ألقت بنوك سويسرا عليها الحجز، ملوحة بأنها مستعدة لأن تعيدها إلى «الدولة» باعتبارها مالاً عاماً للشعب التونسي.
لم يهتموا بما سمعوه عن ثروة حسني مبارك ونجليه الفذين وشركائهما، وعن سعي الدولة المصرية إلى محاولة استرجاع ما يمكن استرجاعه منها بالقانون، بوصفها مالاً عاماً منهوباً.
لم يتابعوا المشاهد البهية لإعادة كتابة التاريخ في ميدان التحرير بالقاهرة وسائر الميادين في مختلف المدن المصرية، ومن قبلها في عاصمة تونس وأريافها… ولا هم تابعوا المسيرة المليونية الظافرة التي امتدت لثمانية عشر يوماً، في مصر، وقد قادها الشباب الجديد بوطنيته الأصيلة ووعيه العميق واندفاعه في طلب التغيير وإسقاط حكم الطغيان، لكي تستعيد بلاده كرامتها المضيّعة ودورها الوازن الذي تستحقه بجدارتها في القيادة والذي أهدره التنازل والتسليم أمام العدو الإسرائيلي والارتهان للهيمنة الأميركية.
لم يسمعوا أصوات فتية مصر وهم يعلنون أنهم يستحقون الحياة الكريمة في وطنهم بدل التشرّد وتحمّل المهانة والاضطهاد في بلاد الآخرين، عربية كانت أم غير عربية، التي كانوا يدخلونها «تسللاً» ليعملوا «في الأسود» يتهددهم خوف الاعتقال والطرد في أية لحظة (هل نسينا مجموعة العمال المصريين ـ والهنود ـ الذين احترقوا وهم نيام في مستودع بعض المصانع غير بعيد عن بيروت، والتي «برئ» أصحاب المصنع من المسؤولية بادعائهم أنهم لم يكونوا يعرفون…).
[ [ [
معذورون هم أهل الطبقة السياسية في لبنان إن هم لم يهتموا بما يقع خارجه حتى لو كان بحجم ثورة مصر أو انتفاضة تونس: هل ذلك أخطر من تشكيل الحكومة الجديدة؟! وهل ذلك يتوازى مع شرف الدفاع عن الحق في تمثيل الطائفة، حتى لو أدى إلى الفتنة؟
هل ثورة مصر أخطر من طلب العدالة من مجلس الأمن الدولي؟
وهل انتفاضة تونس يمكن أن تتقدم على انتفاضة الأرز التي ولّدت ثورة مصر كما يؤكّد الفقهاء في علوم التاريخ السياسي للشعوب؟!
وماذا يهمنا نحن في لبنان من شأن التغيير في تونس أو حتى في مصر، إلا إذا كان ذلك يمكن أن يؤثر على التوازنات الدقيقة بين الطوائف وزعاماتها وحصصها في كعكة الحكم… هل تراه يضرب قاعدة الثلث الضامن؟ هل هو يمكن أن يخرجنا عن اتفاق الطائف، أم تراه يعيدنا إلى اتفاق الدوحة، أو إلى بيان دوحة عرمون الذي تمّ إصداره بطبعة جديدة منقحة ومزيدة؟!
بل ما دخلنا نحن في أمور غيرنا. صحيح أننا ذهبنا إلى بعض هؤلاء، في لحظات الشدة، فدعمونا معنوياً (إذ أن للدعم الآخر عناوين أخرى)، ولكن ذلك كان في الماضي، ثم أن من نصحنا بالذهاب إليهم ورتب لنا مواعيد التصوير معهم ما زال ثابتاً في موقعه في وزارة الخارجية الأميركية، يمارس دوره التوجيهي بإخلاص عز مثاله… تصوروا أن «جيف» يعطي من وقته للبنان أكثر مما يعطيه لقارة بكاملها؟!
[ [ [
محزنة هي المقارنة بين ما تشغل به الطبقة السياسية في لبنان شبابنا فتحرم الوطن من كفاءاته العلمية وقدراته المهنية وتدفع به إلى المغتربات (قريبة وبعيدة) حيث يبيع جهده وعرق جبينه لدول أخرى بينما دولته تتهاوى تحت أثقال إدارته الممنوع تجديدها بالأمر الطائفي… وبينما الشحن الطائفي المفتوح يقسم صفوفه ويفرض عليه المواجهة مع ذاته، مما يدمره تماماً، تمهيداً لأن يتحوّل «رعية» لهؤلاء القادة الذين يستعصي عليه تغييرهم طالما ظلوا محصنين في قلاع حقوق الطوائف والمذاهب، فإن حاول واجهته مخاطر الفتنة فاستكان أو رحل..
على أن عودة مصر إلى دورها، وسط هذا الموكب المهيب لجيل الشباب المؤهل والقادر على إعادة صياغة الغد بما يحفظ كرامة وطنه والأمة، لا بد أن تحيي الأمل في صدورنا… ذلك أن حضور مصر، بثقلها المعنوي يشكل ضمانة للتوازن النفسي، خصوصاً أن شبابها قد انتصروا للتو على مخاطر الفتنة التي كان نظام الطاغية يحاول دفع البلاد إليها لينشغل بها أهلها عنه.
وها هي مصر قد هزمت الطاغية والفتنة معاً، فوفرت المناعة اللازمة لهزيمة الطائفية بالوطنية والعروبة، وقد كانتا مغلوبتين على أمرهما في لبنان وسائر الأقطار العربية.

Exit mobile version