طلال سلمان

ثنائية ديموقراطية احتلال بين ايران عراق

يفضح التزامن بين »الفتاوى« الأميركية المتناقضة حول الانتخابات، واستطراداً حول الديموقراطية في كل من العراق وإيران، النظرة الدونية التي تتعامل بها الإدارة الأميركية مع الشعوب العربية والإسلامية، المدموغة دائماً بالتخلف والنزعة المتأصلة إلى »الإرهاب« ومجافاة الحضارة.
فمطلب الانتخابات في العراق هو، في نظر الحاكم الأميركي باسم الاحتلال، بول بريمر، »رجس من عمل الشيطان« ينبغي تجنبه »حتى لا تكون فتنة«.. وعلى الديموقراطية ان تنتظر ريثما يفرغ الاحتلال من ترتيب »مستقبله« في المنطقة بما يمكِّن شعوبها من الارتقاء إلى مستوى المطالبة بالديموقراطية والامساك بثرواتهم الوطنية.
أما الانتخابات النيابية في إيران، التي كانت ساحة صراع ديموقراطي مفتوح، بمعزل عن نتائجه ونتائجها، فليست من الديموقراطية في شيء، في العين الأميركية، برغم ان العالم كله كان شاهداً عليها، وقد تابع حركة »المعارضين« وتصريحاتهم واحتجاجاتهم واعتصاماتهم، بالصوت والصورة، كما تابع عملية التصويت بتفاصيلها ونتائجها التي لم يحاول النظام تزويرها أو اخفاء دلالاتها التي تمس صورته العامة، وتكسر هالة القداسة من حول »مرشد الثورة ولي الفقيه« رأس النظام الثوري.
وبدلاً من ان يحاول الاحتلال الأميركي التخفيف من آثار القهر الذي مارسه عبر فرض التغيير في العراق بالحرب الاستعمارية، وذلك بتمكين العراقيين من إبداء رأيهم في شكل النظام الذي يريدون، أي الذي يحفظ وحدة الوطن وكيانه السياسي بانتخاب من يعكس ارادتهم في مؤسسات ديموقراطية، فإنه قد تصدى للمطالبة بالانتخابات وكأنها أعلى ذرى المقاومة الشعبية طلبا للجلاء، وعودة صدام حسين وحكم الطغيان… أو الفتنة الطائفية!
وبديهي ان الاحتلال لا يمكن ان يكون الأب الشرعي للديموقراطية أو للحريات العامة أو لحماية الوحدة الوطنية ومعها الثروة الوطنية من النهب.
وبديهي، بالتالي، ان »يفتي« الحاكم باسم الاحتلال بأن الانتخابات خطر على الوحدة الوطنية، وبأنها ستقود العراقيين إلى الحرب الأهلية، ودول الجوار إلى فوضى دموية لا تبقي ولا تذر والعياذ بالله..
أما مع إيران، فقد حاولت الإدارة الأميركية وهي ذاتها التي تحتل قواتها العراق ومعظم منطقة الخليج العربي وتقيم فيها قواعدها العسكرية تشويه العملية الديموقراطية بوسائل عدة أبرزها إلقاء ظل من الشبهة على »الإصلاحيين« في تحركهم من أجل مزيد من الديموقراطية، ولو في ظل نظام يتلفّع بالشعار الديني، مما سهَّل التشكيك في وطنية هؤلاء وإخلاصهم لبلادهم من خلال »تبنّيهم« لاستعداء شعبهم عليهم… ومن ثم تبرير سقوطهم في الانتخابات، حتى لو رشّحوا أنفسهم، فكيف وقد قاطعوها؟!
وليس النظام الإيراني مثالياً في ديموقراطيته، وليست المؤسسة الدينية هي النموذج الأرقى الذي يمكنه التصدي لتطبيق مبدأ حكم الشعب بالشعب…
وما من شك في ان ممارساته لم تكن دائماً ديموقراطية، وأن العديد من المناضلين صادقي الإسلام قد تعرضوا لكثير من العنت فسجنوا أحياناً، وتعرضوا للملاحقة بتهم ظالمة وأقفلت صحفهم ومنعوا من الكتابة بحجة خروجهم على مبادئ الدين الحنيف.. ومع ذلك فقد ظلوا على اخلاصهم لوطنهم وللثورة وللإسلام، وعلى تمسكهم بحقهم في اعلان آرائهم وفي مطالبة الحكم بمزيد من الحريات والتطور ومجاراة العصر.
على ان الهجوم الأميركي المفتوح على إيران إنما يستهدف استقلالها الوطني، قبل نظامها، ودورها الاقليمي قبل دور المؤسسة الدينية في حكمها…
ويعرف العالم كله نماذج فاقعة للاحتضان الأميركي، بالمال والسلاح والتدريب والرعاية السياسية، لبعض المؤسسات السياسية المتلطية تحت الشعار الإسلامي، هي الأكثر تخلفاً ورجعية في غير منطقة من العالم الإسلامي، وأشهرها في المنطقة العربية… فكثير من التنظيمات رافعة الشعار الإسلامي إنما نمت وترعرعت في احضان المخابرات المركزية الأميركية، أشهرها على الاطلاق تنظيم »القاعدة« وزعيمه أسامة بن لادن.
إن »القرار الوطني المستقل« ثورة باهظة الاكلاف، لا سيما في عالم القطب الأوحد..
لكن قيادة الثورة الإسلامية استطاعت ان تحافظ على قرارها المستقل، في الغالب الأعم، في مواجهة الحرب المفتوحة التي شنتها عليها الإدارات الأميركية المتعاقبة.
ومنذ اليوم الأول لانتصار الإمام الخميني بالثورة ذات الشعار الإسلامي وعودته إلى طهران بعد خروج الشاه مطروداً منها بقوة الضغط الشعبي (الديموقراطي..) كان واضحاً ان أهل الثورة ليسوا
من منبع فكري واحد، ولا هم متفقون على منهج سياسي اجتماعي موحد. وكان النظام قادراً بوجه الاجمال على تقبل معارضات من داخل أهله، بقليل أو كثير من الحدة أو الشدة حين يستشعر الخطر على وجوده.
والانتخابات الجديدة في إيران جولة جديدة من الصراع داخل النظام، الذي اهتز تحت ضغط الاصلاحيين لأول مرة في تاريخه إذ تجرأوا على »الحق الإلهي« لمرشد الثورة، واعترضوا علناً على موقفه الذي اتهموه بالانحياز لخصومهم وفيهم كل أهل القوة في النظام.
أوليست هذه ديموقراطية، ضمن ظروف إيران المهددة الآن وأكثر من أي وقت مضى بخطر الحصار الأميركي، وخصوصاً أن الجيوش الأميركية تحيط بها من معظم حدودها البرية والبحرية، وهي قد حلت محل »طالبان« و»بن لادن« في أفغانستان، ومحل صدام حسين في »حراسة البوابة الشرقية« للوطن العربي، من جهة العراق..
* * *
في زمن الانهيارات تحت ضغط القطب الأوحد تبدو إيران وكأنها »الثابت« في محيط متحول… والنظام الذي فرض عليه التخلي عن »أمميته« يرتد إلى موقع دفاعي ويتحصن في »تشدده«.
مع ذلك فهو يحافظ على قدر من »الديموقراطية« يتلاءم مع طبيعته، فيجري انتخابات غير مزوّرة، مستخدماً سلطته الكلية سلفاً لتحديد »الحلال« و»الحرام« فيها، تحت راية »مقاومة الاجتياح الأجنبي«. وهذا انتقاص من الديموقراطية بالتأكيد.
لكن الاحتلال الأميركي في العراق (أو في أفغانستان) لا يعرض غير استمرار الاحتلال للهيمنة على مصائر الشعوب وخيرات أرضها، مستخدماً بدوره قوته العسكرية الكلية لتحديد مصلحة الشعوب تحت احتلاله و»موعدها« المحتمل مع الديموقراطية وحلم الانتخابات..
… وها هي الجماعات المستفيدة من الاحتلال الأميركي للعراق تسير بهذا البلد العربي، الغني بشعبه وبتاريخه وبتراثه الفكري، نحو التمزق والتفتت، فتذكي تحت عباءته الفتنة بين عناصره »القومية«، وتحاول تحويل الانقسام السياسي إلى انقسام مذهبي بين »عربه«، بل وتحاول نفي عروبته، ومن ثم »طرد« الدين كلياً وبالقوة من نظامه السياسي، لاستنفار من تبقى من »قواه« الحية وزج الكل في معركة ضد الكل… لمصلحة الاحتلال.
الوطنية لا تستورد بدبابات الاحتلال..
… وهذه الدبابات تتحرك، متى جاءت، فوق جثة الديموقراطية، قبل أن تتفرغ لإلغاء الوطن والشعب.
حمى الله العراق.

Exit mobile version