طلال سلمان

ثمار مرة لسنة من تمديد

لا يولد الصح من الغلط، والقرار السياسي الخاطئ هو القابلة القانونية للكوارث الوطنية والقومية..
… وها هو لبنان بعد سنة من القرار السياسي الخاطئ بالتمديد لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود يتبدى كمجسّم للهزيمة السياسية التي لا ينفع في تبريرها القول بأن »الدول« تمارس علينا الضغوط إلى حد فرض الوصاية..
ولا تنفع المحاسبة بمفعول رجعي في تبرير الخطأ، كما لا تصلح »الشماتة« مدخلاً إلى التصحيح، فالنتائج التي نعيش مقدماتها الأولية ستكون كارثية على لبنان ومعه سوريا، بحيث يتحول »التمديد« إلى عنوان لهزيمة سياسية مدوّية توصلنا إلى نوع من »الوصاية الدولية« التي تبرر نفسها بالدم المراق ظلماً وعدواناً والذي بات الآن المدخل إلى المحاسبة ومن ثم العقاب الذي ستفرضه »الدول« بغير ان نملك له رداً.
لقد كلفنا »التمديد« في لبنان الكثير.
وكلف »التمديد« سوريا أكثر.
علماً بأن الحساب مفتوح بعد، والآتي أعظم.
وأسوأ ما في الأمر ان »التمديد« قد أدى عملياً إلى النتائج الخطيرة التي قاد إليها التخوف منها في ما لو لم يفرض في آخر لحظة وبعد مسلسل من التطمينات والتعهدات التي كانت تشي بوعي مخاطره على لبنان بداية وعلى سوريا أساساً.
قبل سنة كانت سوريا في لبنان كله. كان لبنان، »سياسياً« في قلب القرار السوري.
كان اللبنانيون، بأكثريتهم الساحقة، يسلّمون لسوريا »بحقها« في أن تشارك وبالكلمة الأولى في اختيار رئيس جديد، مع نهاية المدة الدستورية لاميل لحود.
كان اللبنانيون، بأكثريهم الساحقة، يتعاطفون مع سوريا المهددة بالاحتلال الأميركي للعراق، وبالضغوط الإسرائيلية، والمخضعة لحصار غربي (وعربي) منهك، يستهدف عزلها والتضييق عليها إلى حد تجويعها.
قبل سنة كان بإمكان سوريا، وفي ظل موافقة واسعة من اللبنانيين، أن تختار »العهد الجديد« الذي يمكنه أن يحمي ظهرها ست سنوات أخرى، ومن دون اعتراض دولي جدي.
أما اليوم فإن الريب والشكوك والمخاوف تزرع طريق بيروت دمشق بالألغام، بعدما انقطع عنها سيل المؤكدين لصلات النسب والقربى ولقوة المصالح المشتركة بين البلدين المتكاملين… ولم تكن »التحرشات« عند »نقاط العبور« إلا رد فعل عصبياً على مجمل التحولات الخطيرة التي شهدها لبنان، والتي سيشهدها بعد، في ظل التطورات المحتملة والتي حكمها بداية منطوق القرار الدولي 1559 الذي صدر عشية التمديد (2 أيلول 2004) ثم تفجرت عواصف من غضب بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
لقد كان الاغتيال زلزالاً مدمراً، تجاوزت تداعياته العواطف إلى المواقف بعدما اهتز اليقين في ما كان يعتبر من الثوابت التي لا يمكن ان يهزّها أي ظرف طارئ.
وكان صعباً أمام مشهد الجريمة المروّعة، بهدفها المقصود بذاته، نسيان ما سبق »التمديد« وما نتج عنه، سواء على الصعيد الدولي، أو خاصة على المستوى المحلي.
لقد كانت الفاجعة وطنية وقومية في آن، إذ احس اللبنانيون أن عروبتهم قد أصيبت في صميمها…
وحين تفجرت بيروت بتظاهرات الغضب والإحساس بالفجيعة كان صعباً استنقاذ العروبة وكانت سوريا تنزف دورها في تلك الشوارع التي طالما سارت فيها التظاهرات الحاشدة ودوّت فيها الهتافات للثورات في كل أرض عربية، في خط مواز للتظاهرات في دمشق، أيام النضال ضد الاستعمار وضد الاحتلال الإسرائيلي وضد الانفصال وإسقاط دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة).
ولقد رفض الناس في لبنان ذلك الترويج المقصود لمقولة »إن العروبة هي التي قتلت رفيق الحريري«، إذ أنهم كانوا يدركون بوعيهم كما بعاطفتهم أن من قتل رفيق الحريري إنما كان يقصد قتل العروبة في لبنان، وفي سوريا أيضاً، وفي كل أرض عربية.
لكن اللبنانيين كانوا يدركون كذلك أن مرحلة معيّنة من »العلاقات المميزة« بين لبنان وسوريا قد انتهت، وأن العروبة بعد جريمة اغتيال الحريري ستكون أضعف، وأن »التدويل« سيكون أقوى حتى يبلغ حدود »الوصاية«.
وقد يذكر المؤرخون، غداً، ان العماد اميل لحود كان آخر رئيس لبناني تم اختياره بقرار »عربي«، بعد عملية تسويق محلية ناجحة، مع مراعاة مصالح »الدول« ذات الشأن.
لقد بات لبنان يعيش حياته في ظل وصاية دولية معلنة، ولعلها بعد التمديد قد اتخذت سياقاً محدداً ومحدوداً، ولكنها بعد جريمة اغتيال الرئيس الحريري صارت قدراً محتوماً..
÷ إن الاقتصاد اللبناني »مدوّل«… وهو الآن يحتاج إلى »باريس 3« بأكثر مما كان يحتاج »باريس 1« و»باريس 2«. كذلك فهو بحاجة إلى »نصائح« البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بأكثر مما كان يحتاجها في »عصر الحريري«.
÷ والقضاء اللبناني الآن يكاد يكون تحت »رعاية« دولية (وتجنب كلمة وصاية مقصود، احتراماً لهذا القضاء ومن فيه من رجال يتصفون بالنزاهة).. لكن المداراة لا تنفع في نفي الأمر الواقع.
÷ كذلك فإن الانتخابات التي استولدت المجلس النيابي الحالي إنما تمت بقرار دولي معلن، ربما اراد توظيف الحساسيات الطائفية والمذهبية في النتائج التي ربما ستستولد رئيس الجمهورية الجديد.
÷ أما الحكومة التي أشرفت على الانتخابات فقد استولدت بقرار دولي بلغ من »سريته« ان أي مواطن لبناني يستطيع أن يحدثك بشغف عن محطاته العديدة في العواصم البعيدة أساساً، والقريبة، ربما لمراعاة الشكل.
÷ وأما حكومته الحالية فقد حكمت صياغة بيانها الوزاري مجموعة من القرارات الدولية، تطلبت تسويات عبقرية، وإن ظل ضابط الايقاع فيها ضرورة الاسراع في تشكيلها لكي تتلقى نتائج عمل لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الحريري (القرار 1595).
هل يستحق القرار بالتمديد كل هذه التضحيات؟!
هذا سؤال قديم، أما السؤال الجديد فهو: هل يستطيع التمديد الصمود أمام هذه »الوصاية« التي تبرر نفسها بأخطاء الحكم وخطاياه في الحقبة السابقة؟
صار السؤال، في هذه اللحظة: من هو الرئيس الجديد، ومن سيختاره؟
لم يعد استمرار الرئيس اميل لحود في منصبه حتى نهاية ولايته الممددة موضع تسليم شعبي، بل إن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين تستغرب »صموده«، حتى وإن كانت ملتزمة باحترامها للشكليات الدستورية التي روعيت في التمديد له.
إن التمديد مرفوض، لبنانياً، من حيث المبدأ.
والتجربة الأولى للتمديد قد سقطت، مع أن من حظي بنعمتها كان أحد »أبطال الاستقلال«: الشيخ بشارة الخوري..
أما التجارب الأخرى فقد أجهضت من قبل أن تتم.
ويمكن اعتبار التمديد للرئيس الياس الهراوي استثناء بكل المعايير، خصوصاً وقد ربط أو انه تزامن مع احتمال الوصول إلى تسوية لأزمة الشرق الأوسط، أقله في ما يعني لبنان وسوريا، وكان التبرير: أن مثل هذا المطلب الذي لا تتوفر له الظروف المؤاتية دولياً إلا في لحظات قدرية كان يتبدى وكأنه في متناول اليد آنذاك.
كان تبريره في الربح السياسي المحتمل لسوريا ومعها لبنان.
أما التمديد الثاني فلم يكن إلا خسارة محققة، بل كارثة، على سوريا ومعها لبنان.
والسؤال الآن: هل يشكل اسقاط التمديد باب الخروج من الأزمة التي تعصف بالبلدين معاً؟!
وهل إسقاط التمديد يعني إسقاط الوصاية الدولية، ويفتح الباب لحل وطني لأزمة لبنان الداخلية، ولأزمة علاقته المتردية مع سوريا؟
وأين يقع تقرير ميليس من ذلك كله، هذا إذا لم نسأل عن المحكمة الدولية، إذا ما أحيلت إليها جريمة اغتيال الرئيس الحريري بكل المسؤولين عنها والمشاركين فيها، بالتخطيط أو بالتنفيذ أو بالصمت عن مدبريها؟!
إن لبنان عند منعطف قد يقوده إلى غير ما يتمنى أهله، وخصوصاً أن لا قدرة على التحكم بما يقرر له.
وسوريا مهددة بأخطار جسيمة، أبسطها العزلة المفروضة، فضلاً عن العقوبات التي أنزلت بها سابقاً أو التي ستنزل بها لاحقاً تحت عنوان لبنان والمسؤولية عما جرى فيه، وبالتحديد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولو بهذه النسبة أو تلك.
و»الدول« ليست جمعية خيرية، والوصاية الدولية ليست هي الاستقلال ولا الديموقراطية.
والمحاسبة المتأخرة على خطأ التمديد لن تبدل في النتائج.
مع ذلك فالسؤال يبقى مشروعاً: ماذا ينتظر الرئيس اميل لحود لكي يتخذ القرار الذي قد يمكّن اللبنانيين من إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟!

Exit mobile version