طلال سلمان

توافق على <العهد جديد> وليس على <الرئيس> فقط

يستولد التلهف على الخروج من نفق الأزمة التي يكاد يختنق فيها اللبنانيون مجموعة من الأوهام، أخطرها الافتراض بأن الحل إنما يتلخص في التوافق على شخص الرئيس الجديد للجمهورية المتهالكة، وكأنه الدواء الشافي من الأمراض كافة .
يتناسى مروّجو هذا الوهم، بالقصد، أن لبنان ليس جزيرة معزولة في القطب المتجمد الشمالي، مثلاً، وأن الصراع المحتدم على منطقته وفيها يجعل شبح الحرب ضيفاً مقيماً كاحتمال لا يمكن نفيه، إذا ما تذكرنا الطبيعة المغامرة للإدارة الأميركية و إنجازها الباهر باحتلالها العسكري للعراق، بكل التداعيات الدموية المرعبة التي نجمت عنه، فضلاً عما أثارته من مخاوف على المصير.. لا سيما بعد نجاحها التاريخي في إيقاظ الفتنة النائمة بين المسلمين وفي إعادة استيلاد التشققات ذات الطبيعة العرقية (عرب، أكراد، تركمان، كلدان، أشوريون، يزيديون، صابئة إلخ).. من دون أن ننسى القضم اليومي الذي يتابعه الاحتلال الإسرائيلي لتذويب فلسطين، فضلاً عن جهدها الدؤوب لتسعير الفتنة بين أبناء الأرض الواحدة والقضية الواحدة: فلسطين.
أما على المستوى المحلي فيتناسى مروّجو هذا الوهم، وبالقصد أيضاً، اتفاق الطائف الذي جعل الحكم في لبنان توافقياً ، وبالتالي فقد أناطه بمجلس الوزراء مجتمعاً، في صيغة من صيغ القيادة الجماعية، ولو على قاعدة طائفية.
وعلى أهمية موقع رئيس الجمهورية، بوصفه حامي الدستور ومجسّد التوازن الوطني، فإن الإيحاء بأن شخصه هو مكمن الأزمة أو عنوان الحل مغالطة فاضحة أو تبسيط مضلل..
إن التوافق على شخص الرئيس هو في أفضل الأحوال مدخل إلى الحل، لكن الوجه الآخر إنما يتجسد في التوافق على الحكم كله، أي على مجلس الوزراء الأول في العهد الجديد ، إذ فيه وعبره تقوم المؤسسة المطلوبة كمدخل إلى التسوية السياسية الفذة التي يفتقدها لبنان، منذ أمد بعيد، والتي يحتاجها اليوم أكثر مما احتاجها في أي يوم من ماضيه.
مجلس الوزراء مجتمعاً هو الإطار السياسي الطبيعي للتوافق، الذي قد يكون التفاهم على رئيس الجمهورية عنوانه لكنه لا يكتمل إلا بالمتن الذي يعطي للعنوان مضمونه..
وعلى امتداد عمر الأزمة التي عاشها لبنان فإن شخص الرئيس لم يكن وحده السبب فيها، بل إن الخلافات قد تجاوزته إلى المؤسسات جميعاً: مجلس الوزراء الذي خرجت أو أُخرجت منه طائفة كبرى واستمرت الحكومة بتراء، ومنافية للطبيعة حتى اللحظة، مجلس النواب ودوره الذي عطله الخوف عليه من أن يفجّره الصراع على السلطة فيخسر لبنان المرجعية الشرعية الأخيرة.. هذا فضلاً عن الدستور الذي تحكّم الغرض في تفسيره حتى كاد اللغط فيه يذهب بموجبات احترامه وإخراجه من دائرة الجدي.
بل إن هذه الأزمة قد تفاقمت خطورة بالأبعاد المدمرة للتدخل الدولي، بالقيادة الأميركية الفرنسية المشتركة، إذ أخضع لبنان لوصاية دولية فعلية، تولت بالنيابة عن سلطاته ، وبموافقتها، أمن حدوده البرية والبحرية، تاركة سماءه مفتوحة للطيران الحربي الإسرائيلي، وأمر العدالة فيه، فضلاً عن اقتصاده المدوّل منذ أمد بعيد..
وبديهي القول إن الأزمة السياسية في لبنان ما كانت لتتخذ هذه الأبعاد الخطيرة والمعقدة لولا النتائج المريعة للاحتلال الأميركي للعراق… (وهو ما يبرّر به النظام السوري اندفاعه إلى التمديد للرئيس إميل لحود، في الساعات الأخيرة)، وتقدم إسرائيل إلى ممارسة مسؤولياتها باعتبارها الشريك الاستراتيجي الفعلي للإدارة الأميركية في رسم مصير هذه المنطقة، بعد نزع هويتها العربية الأصلية عنها واعتبارها مجرد مدى حيوي لها، تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد ..
ولعل الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام الماضي كانت بمقاصدها خطوة على هذا الطريق، ولا يلغي ذلك أن تكون المقاومة قد أفشلت هذه الحرب ببسالة مجاهديها وصمود الشعب كله من خلفهم.
وبديهي القول أيضاً إن الخلافات الجدية التي عصفت بلبنان على امتداد العام الماضي هي أخطر من أن تعالج بالتوافق على شخص الرئيس الجديد، بل لا بد أن تشمل الاتفاق الجدي على ثوابت الحكم في لبنان، إن في الداخل، أو في علاقاته بمحيطه، الأقرب فالقريب، وصولاً إلى علاقاته مع الدول ، وبما يضمن الحد من تدخلها فيه الذي تجاوز كل حد فوصل إلى قدس الأقداس العلاقات بين أهله، وثوابت استقرارهم النفسي والسياسي والاقتصادي والأمني.
من دون أن ننسى إسرائيل ومشاريع حروبها الجديدة التي تكاد تكون معلنة..
التوافق يكون على العهد الجديد كاملاً: بالرئيس والحكومة وبيانها الوزاري الذي يحدد مواقفها وموقعها مما يدبر للمنطقة عموماً، ولبنان منها في الصميم… وتلك هي الضمانة البديهية حتى لا يُخدع الناس بوهم توافق لن يكون أكثر من سراب، بغض النظر عن شخص الرئيس، وموقعه من نفوس اللبنانيين..
فالأزمة سياسية، وخطيرة، وتنذر بالتفجر، ولأسباب تتجاوز لبنان والخلافات الطبيعية بين أهله، إلى صراع الدول على مستقبل هذه المنطقة وهويتها وحق أقطارها في مستقبل أفضل، بين شروطها تحصينها ضد التدخل الأجنبي ولاّدة الفتن، طائفية ومذهبية وعنصرية وجهوية إلخ.. وضد احتمالات الحرب الجديدة التي تلوّح بها إسرائيل ضد سوريا (وإيران) والتي يبقى هدفها الأول لبنان ومقاومته وموقعه في الصراع المفتوح.
وعلاج الأزمة بالعودة إلى جذورها وليس بالتعامل مع ظواهرها التي يختلط فيها الصح بالغلط، والحقيقي بالوهمي، والأجنبي بالمحلي، حتى لا تتسبّب المقاربة الخاطئة في تفجيرها بدلاً من معالجتها، بعيداً عن التدخل الدولي، ما أمكن. وهذا ليس بالأمر الهيّن.
المطلوب باختصار: إعادة تجديد صيغة الطائف للحكم بمؤسسة مجلس الوزراء مجتمعاً، وبرئاسة حامي الدستور وضمانة الوحدة الوطنية، صاحب الفخامة رئيس الزمن الصعب في الجمهورية المهددة في وجودها.
ذلك أن المهمة الجليلة التي تنتظر العهد الجديد هي الأخطر في تاريخ لبنان… وبين ضمانات نجاحه أن تكون ولادته شرعية لا قيصرية، وأن تتم بالتوافق لا بالإبعاد والاستبعاد والعزل وتجاهل مكوّنات الوجود.

Exit mobile version