طلال سلمان

توازنات محاسبة موازنة

الحساب بالنسبة للبناني، عموماً، فن وليس علماً، والفن يتصل بالموهبة في حين يتصل العلم بالعقل،
والرقم بالنسبة للبناني، عموماً، احتمال وليس حقيقة باردة، والاحتمال قابل للارتفاع بالتحقق او السقوط بالفشل او بالاستحالة،
ثم ان الرقم قابل للتلون وبالتالي للتفسير وإعادة التفسير بذرائع قد يكون اولها الحظ وقد لا تكون آخرها الغريزة الطائفية او العصبية المذهبية،
من هنا فإن مناقشة الموازنة كأرقام لا تعني المواطن كثيراً، فلا هي تستثير فضوله ولا هي تستفز اهتمامه… فهو في حياته اليومية لا يتوقف كثيراً أمام الارقام: لا في دخله ولا في مصروفه، اي لا في مصادر دخله ومدى شرعيتها ومشروعيتها ولا في وجوه الإنفاق وموجباته او ضروراته وهل تتصل بالحاجة ام بمشاعر اخرى كالنكاية او التباهي ام بالمزاج فحسب؟!
ان ما استثار اهتمامه، مع فضوله، في مناقشة الموازنة هو الجانب السياسي من النقاش: اي المعارضة وطروحاتها ومشروع برنامجها (المفترض)، وهل لوت به ذراع الحكومة (بشخص رئيسها) ام لا؟!
انه يميل، بطبعه كما بمزاجه، الى المعارك والمناوشات والمصادمات وصولا الى »الخناقات« الشخصية،
… وان »يهجم« معارض على وزير، او ان يسفِّه رئيس سابق رئيساً حالياً، وان يشتم نائب وزيراً او »يتحدى« وزير نائباً، اهم في عين المواطن من صحة الرقم المطروح او خطله، وقد يستنفر من مشاعره وعواطفه اكثر مما يستنفر حجم الضرائب او الرسوم الجديدة التي ستقتطع من دخله.
هذه ملاحظة اولى على جلسات مناقشة الموازنة التي »انتصرت« فيها الحكومة حيث لم يكن ثمة بديل من »الانتصار«، فبالنتيجة كان لا بد من إقرار الموازنة.. على ان المعارضة خرجت هى الاخرى »منتصرة« ليس فقط بتأكيد حضورها وحيوية دورها، بل اساساً بتوكيد الحاجة اليها وضرورتها من اجل انتظام الحياة السياسية في لبنان.
الملاحظة الثانية ان الجمهور العربي قد حرم من التمتع بأفضل البرامج السياسية التي كان يمكن ان تبثها محطات التلفزيون اللبنانية، نتيجة »تحريم« البث الفضائي بما يفيد ذلك الجمهور المتعطش الى الديموقراطية، بأي قدر، والى حرية النقاش حول »الشأن العام« على اي مستوى، والى »شبهة« محاسبة الحاكم او المسؤول، حتى لو انتهت »المحاكمة« بتبرئته،
وبين المفارقات المفزعة ان يتاح لهذا الجمهور العربي ان يمضي الساعات متسمرا امام شاشته الصغيرة يتابع عبرها »المحاكمة المفتوحة« لرئيس أقوى دولة في العالم، لا يعكر عليه صفاءه إلا نشراته الاخبارية المحلية التي تعيد تثبيت حاكمه كظل لله على الارض، او كصنم مقدس لا تجوز مساءلته فكيف بمحاسبته، وهو فوق النقد والحساب فكيف بالمحاكمة، وله على المستوى الشخصي الحق المطلق بأن ينشئ من العلاقات الجنسية ما شاء له الهوى فإذا ما عنّ ببال أحد ان يشير الى هذا الأمر قطع لسانه او قطع رزقه او قطعت عنقه او قطع ذلك كله!
فجأة يشهر سيف الأخلاق لحماية خروج الحاكم على الأخلاق، وقد تسخّر »الشريعة« وتستصدر الفتاوى لتجيز للحاكم المحرم من العلاقات والمباذل والانتهاكات البشعة للشريعة والأخلاق والقيم التي تحترمها وتلتزم بها رعيته المؤمنة!
الملاحظة الثالثة ان ارهاب التزكية او الإجماع او الاكثرية المضمونة تسيء الى الحاكم اكثر مما تسيء الى المعارضة التي يمكنها والحالة هذه تبرير قصورها بالعجز عن إسقاط »الثوابت«، بينما تتساقط ذرائع الحكم واحدة تلو الاخرى فيبدو مقصرا او قاصرا: اذ ما عذره طالما ان الاكثرية مضمونة معه وله، سواء أكان ظالما ام مظلوما، في عدم الإنجاز؟!
ولقد تبدى بعض »الثوابت« من الوزراء على حقيقتهم عبر جلسات المناقشة: أعباء على الحكومة بداية، ومجلبة للمطاعن والاتهامات والشبهات، اضافة الى »استقوائهم« على الشعب واستهانتهم بإرادته، وتجرّئهم على الكذب العلني (المتلفز!!) بل واللجوء الى ابتزاز الحكومة ذاتها والمجلس النيابي، برمته قبل الوصول الى الشعب المسكين المهدد بأن يقطعوا عنه الهواء وليس فقط الكهرباء والفيول (استطرادا) ان هم لم يعطوا ما يطلبون من اموال لو كانت للمصلحة العامة لما تحمسوا لها كل تلك الحماسة.. المشبوهة!!
وباختصار فقد ظهر هؤلاء الوزراء وكأنهم يتآمرون على رئيسهم بداية، فقد خرج بعضهم »يجر الذيل تيهاً عليه« كأنه »عليك امير المؤمنين امير«!!
الملاحظة الرابعة ان المناقشات على حيويتها، وعلى فائدتها، لم تغير كثيرا في بنود الموازنة، ولا سيما في تلك التي يفترض انها ترتب المزيد من الأعباء، لان »التفاهم الرئاسي« كان يتدخل في اللحظة الحاسمة فيضبط النقاش عند حدود، مستنفرا الاكثرية المرفوعة الأيدي سلفاً فإذا ما كُتب قد »صُدِّق« من قبل أن يُقرأ..
على أن الأكثرية المضمونة سيف ذو حدين فهي قد تفضح الحكم، أحيانا، بأكثر مما تفيده، ثم انها متى جاء »المعتصمون« تتبخر، مع معرفتها الثابتة بأن لا قدرة لهذا الشتات من أصحاب المطالب على التحرك خطوة أبعد من الخط المرسوم.
وهي بالأمس قد خذلت أصحابها بالغفلة وسوء التقدير فغاب من لا ضرورة لحضوره إلا في لحظة رفع الأيدي وتمرير الكلمة السحرية: ثقة!
وملاحظة أخيرة:
كيف غير الموثوقين يعطون ثقة؟!
وكيف ملوك الحساب يخطئون في الحساب؟!

Exit mobile version