طلال سلمان

»تفطيس« نصر بتفاصيل انسحاب

ليس الشيطان وحده في التفاصيل، بل إن تفتيت »القضية« إلى مجموعة من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل هو أحد أبرز الأساليب التي دأبت إسرائيل على استخدامها، وغالبا بنجاح، لتبديد الأساسيات وطمس »القضية« بأصلها والتفرعات. فإسرائيل شريكة الشيطان في هذا المجال.
وها هي إسرائيل تكاد تنجح في تحويل قضية احتلالها الأرض اللبنانية ومشروع انسحابها منها إلى كمّ هائل من التفاصيل ليست »مزارع شبعا« إلا أحد عناوينها الصارخة بما أثير حولها من إشكالات ورافق طرحها من التباسات شملت الخرائط والملكية والتبعية والسيادة وأي قوات طوارئ دولية تتولاها إلخ…
ولذلك هدف واضح: فإسرائيل قاتلت وما زالت تقاتل وتكاد تنجح في قلب صورة انسحاب جيش احتلالها من لبنان من هزيمة عسكرية لها مردودها السياسي الباهر على »لبنان المقاوم« ومعه سوريا والمتعاطفون من العرب وإيران الثورة الإسلامية، إلى مكسب سياسي لإسرائيل وحكومتها على المستوى الدولي ويمكن بالتالي استثماره عربيا وتوظيفه من أجل التشويش على اللبنانيين وبث الفرقة أو الارتباك بينهم باستخدام السلاح التقليدي: اللعب على الحساسيات الطائفية والمذهبية أو إثارة موضوع الوجود السوري في لبنان وكأنه مترابط أو متصل بالاحتلال الإسرائيلي.
أما مع سوريا بالذات فقد حاولت إسرائيل وباستخدام سلاح التفاصيل والمزيد من التفاصيل، أن تصوِّر الإصرار السوري على العودة إلى خط الرابع من حزيران 1967 وكأنه تمسك لا معنى له ببضع مئات من الأمتار، في أرض جرداء، توصلها إلى الشاطئ الشمالي الشرقي لبحيرة طبريا من دون أن يكون لها حق الانتفاع بمائها، بحيث يبدو وكأنه تمسك بالشكل وليس بمسألة اعتبارية بل وسياسية تتصل بدور سوريا في المنطقة مستقبلاً، وتمنع الهيمنة الإسرائيلية المطلقة على كل الأرض العربية بغير حد وبغير شريك.
أما في فلسطين المحتلة فقد نجحت إسرائيل، ومنذ زمن بعيد يعود إلى اتفاق أوسلو مع »السلطة« في العام 1993، في تفتيت »القضية« إلى تفاصيل، ومزيد من التفاصيل، بعضها أمني وبعضها اقتصادي وأقلها سياسي، بحيث تحول »المجموع« في جانب منه إلى مجرد مشكلة أمنية إسرائيلية، وفي الجانب الآخر إلى مسألة نضال مطلبي ونقابي لأقلية عرقية أو قومية داخل الكيان الإسرائيلي، وبالتالي فليس لغير حكومة تل أبيب حق التعاطي معه أو البت فيه: يستوي في ذلك حجم الانسحاب وحدوده ومواعيده، وصلاحيات »السلطة« وشعاراتها وحدود ممارساتها السياسية التي يجب أن تظل منضبطة وملتزمة بنطاق الاتفاقات الأمنية لمكافحة الإرهاب والإرهابيين ممّن لم تسقط فلسطين الوطن من ذاكرتهم ولا هم سقطوا في فخ إغراءات »السلطة« وأموال فسادها الكثيرة.
هكذا نشهد ونتابع بألم وبحرقة، هذه الأيام، تظاهرات صاخبة يحتشد فيها الشباب الممتلئ حماسة وإيمانا، مما يذكر بأمجاد »الانتفاضة« من دون أن يكون الأفق مفتوحا لتجديدها،
يسقط الشهداء تباعاً، ويصرع الرصاص الإسرائيلي رجال شرطة وفتياناً يحاولون تقليد الرواد السابقين على طريق »الانتفاضة« ونساءً وأطفالاً قبضاتهم أصغر من حجم الحجارة التي يرشقون بها جنود »العدو الإسرائيلي«، لكن »الخبر« في العالم وحتى عند العرب لا يتعدى إطار »الاحتجاج الشعبي« على بعض التدابير الحكومية… الإسرائيلية!
تظاهرات ولا قضية، شباب وفتية ونساء وأطفال في الشوارع لغير سبب جدي ومفهوم،
أما مَن يريد أن يقرأ »الخبر« في السياسة فلسوف يصل إلى استنتاج وحيد هو أن »السلطة« تحاول »ابتزاز« إسرائيل، وتضغط عليها بدم الفتية الأغرار، وبعضهم من »شرطتها«، لتحسين موقعها التفاوضي حول بعض التفاصيل الإضافية بعدما ضاع جوهر الموضوع.
ونعود إلى لبنان والاحتلال الإسرائيلي ومشروع الانسحاب الذي أعلن إيهود باراك أنه سينفذه قبل موعده المعلن بشهر أو يزيد..
إن القرار الإسرائيلي (أي قرار) مفهوم للعالم بمجرد إعلانه، ويظل مفهوماً وموضع ترحيب مهما رافقه من قصف وتدمير للبنية التحتية أو من تهديد بمزيد من التدمير، وبرسائل نارية عبر لبنان إلى سوريا والفلسطينيين فيها.
وفي قرار الانسحاب لم نجد مَن يهتم بتفاصيله وشروطه، عدانا نحن أصحاب العلاقة، ومَن اهتم فمن زاوية أن الانسحاب مطلب إسرائيلي يوفر عليها المزيد من الضحايا ويؤكد »نواياها« السلمية والتزامها بمسيرة التسوية.
وقد أمكن لإسرائيل أن »تبيع« قرارها الانسحاب من لبنان وكأنه استجابة، ولو متأخرة، لقرار المجتمع الدولي (الأمم المتحدة ومجلس الأمن) لا يهم أن يكون قد صبر عليها أو تغاضى عنها أو أهمل واجباته أو »طنّش« عن احتقارها له طوال 22 سنة..
ها هو »المجتمع الدولي« ينشط، وقد جاءه الكتاب الإسرائيلي، فتتحول الأمم المتحدة إلى »دوائر عقارية« تدقق في حجارة المساحة وفي صكوك الملكيات والأوراق الثبوتية التي يحملها أصحاب العقارات أو الحقوق!
تقول إسرائيل، مثلاً، إن بعض الأرض، وبالتحديد مزارع شبعا، سورية وليست لبنانية، فتسارع الأمم المتحدة إلى المصادقة على هذا القول متجاهلة »ادعاء« لبنان أن ملكية المزارع تعود إليه، ومتجاهلة أيضاً الإعلان الرسمي السوري بأن دمشق تؤكد على المطلب اللبناني وتدعمه،
إذا شئنا »التبسيط« فلا مشكلة..
إسرائيل لا تدعي، ولله الحمد، »ملكية« هذه المزارع،
ولبنان يعلن بكل اللغات والخرائط والوثائق و»الحجج« والوقفيات والأحكام القضائية وشهود العيان وقطعان الماعز وبغال التهريب المدربة جيداً، أن الأرض أرضه، وأن استخدام بعض النقاط فيها خلال حرب 1967 من طرف الجيش السوري إنما تمّ بالاتفاق معه، واحتلال إسرائيل لها لا يبدل من تبعيتها ولا يسقط حق لبنان في السيادة عليها بوصفها بعض أرضه.
مع ذلك تستمر مماحكة لبنان، وتستمر مطالبته بأن يثبت أن اسمه لبنان وأن علمه يحمل أرزة في قلبه، وأن سوريا لها حدود طويلة على اثنتين من جهاته الأربع، وأن ترسيم هذه الحدود يعود إلى البلدين حصراً، ولا شريك لهما فيه.
والمهم ألا تحاصرنا إسرائيل بالتفاصيل فتخنقنا فيها وتضيع القضية.
والمهم ألا نضيع خلال انشغالنا بتفاصيل نصرنا العسكري والسياسي، فنسقطه ثم نبكي عليه.
مع شمس كل يوم لنرفع الصوت بإعلان انتصارنا،
فذلك أجدى من النوم مع التفاصيل حيث مكمن الشياطين ومعها إسرائيل التي لن ينتهي احتلالها بالانسحاب، حتى لو شمل مزارع شبعا!

Exit mobile version