طلال سلمان

تفجير جدار امان

أعادت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لبنان إلى دائرة الخطر من جديد. لكأنما تصدع مع تفجير موكبه جدار الأمان بشكل ضاعف الخوف من سقوطه بعد كل الممارسات الخاطئة قبل تلك الظهيرة الممهورة بدماء الشهيد ورفاقه.
لقد أصاب الانفجار »كل« لبنان: سلطته بإداراتها وأجهزتها المختلفة، مؤسساته الاقتصادية والإنتاجية عموماً، رصيده المعنوي كواحة للاستقرار تجتذب المستثمر والسائح والمصطاف وطالب العلم.
لم ينج بيت من شظايا تلك الجريمة الرهيبة.
ومع الشظايا دخل القلق على اليوم والغد، وصار السؤال الذي يتبادله اللبنانيون قبل تحية الصباح: إلى أين من هنا؟! كيف سنكمل بقية حياتنا؟! هل بقي لنا مكان في وطننا أم أن علينا الرحيل إلى حيث يمكن أن ينشأ أبناؤنا في أمان؟
كان رفيق الحريري كبيراً بحيث يبدو كأنه يفيض عن البلد.
وكان الاعتقاد أن مثل هذا الرجل الغني بعلاقاته العربية وبشبكة اتصالاته وصداقاته الدولية، فضلاً عن وهجه الذهبي وعن رصيده الممتاز لدى جمهور مواطنيه ممن وفّر لأبنائهم فرصة العلم أو فرصة العمل أو المساعدة من دون منّة، لا يمكن أن يطاله الخطر، لأنه محصّن، ثم إنه »ضرورة« للبنان وسلمه الأهلي، كما لسوريا واستقرارها كما للمحيط العربي بوصفه »رجل العرب الدولي«.
وعندما دوّى الانفجار فأودى بحياة رفيق الحريري، بكل ما يعنيه، كان طبيعياً أن يحس اللبنانيون جميعاً أن جدار الأمان من حولهم ومن حول وطنهم الصغير قد أصابه تصدّع خطير قد يؤدي إلى انهياره بالكامل.
ولقد اختلط الحزن الوطني العام على الشهيد رفيق الحريري ورفاقه بالحزن الشخصي، إذ أحس كل مواطن أنه مستهدف بهذا التفجير، بقدر ما استشعر خطراً داهماً على وطنه جميعاً.
لقد عطبت شظايا التفجير السلطة المتهالكة في لبنان فبعثرتها وقضت على مصداقيتها، وكشفت هزالها وعجزها عن حماية »الأمن الوطني«، هي التي كانت لا تجد ما تفاخر به إلا إنجازاتها الأمنية ..
كذلك فقد أصابت شظايا التفجير سوريا ودورها في لبنان، الذي كان قد فقد حصانته منذ بعض الوقت وصار موضع نقاش، لا سيما بعد ارتكاب خطيئة التمديد… بل إنه صار موضع اختلاف بين اللبنانيين، وهذا أكثر ما يؤذيه.
لقد أصاب اغتيال رفيق الحريري مقتلاً في العلاقات اللبنانية السورية. ومن أين يأتي الأمان إذا كان الاغتيال سيطال »رجل الدولة« الذي جاء إلى السلطة في لبنان من باب دمشق، والذي سعى طيلة عمله في الحقل العام إلى تحقيق الخير لها، داخل سوريا أو في لبنان أو عبر علاقاته الدولية، والذي سعى حتى يومه الأخير لخيرها الذي لم يره في أي يوم منفصلاً عما هو خير للبنان؟!
* * *
لقد تصدّع جدار الأمان. وكل ليلة ينام المواطن في قلب قلقه على غده. إنه يعيش في خوف حقيقي من الغد.. وهو خوف كان يفترض أنه قد تحرّر منه، منذ إعادة بناء السلطة وانتظام الحياة العامة على قاعدة اتفاق الطائف (تحت الرعاية السورية).
وكيفما تلفّت هذا المواطن الذي يعيش على أعصابه، يوماً بيوم، وجد طوفاناً من أسباب القلق. يسمع من المراجع الروحية والسياسية تحذيرات من الفتنة. ويسمع من مصادر غربية وعربية تهديدات تتناول »حزب الله« لا تتأخر إسرائيل في التهويل بها لتزيد من الاضطراب في الحياة العامة داخل البلد المهيض الجناح. ويسمع تحريضاً مباشراً على هذا الحزب يجعله كأنه »طارئ« على الحياة السياسية، بل وعلى لبنان وشعبه.
ومع ان هذا المواطن قد ألف وجود المعارضة بل المعارضات المتعددة الشعارات في حياته العامة، فإنه الآن يسمع نبرة غير مألوفة في تصريحات بعض المعارضين وفي خطبهم من حول ضريح الشهيد رفيق الحريري، أو في دعواتهم للاعتصام والإضراب. إنه يشم أحياناً رائحة »الحرب« أو »الفتنة« في بعض تلك التصريحات والخطب. كذلك فهو يستشعر الخطر من محاولات احتكار شهادة الشهيد الكبير الذي يستعصي على الاحتكار كونه يخص اللبنانيين والعرب جميعاً (وبينهم السوريون)، ومحاولة حصر الحزن عليه بفئة أو بجبهة أو بأحزاب وتنظيمات بعضها لم يقل كلمة خير في الحريري منذ ان أطل على الحياة العامة عاملاً لإعادة إعمار البلاد ثم رئيساً للحكومة وقطباً سياسياً كبيراً، وحتى رحيله كشهيد عظيم، لكل لبناني فيه نصيب.
* * *
لقد تصدّع جدار الأمان… وليس مبالغة ان يستشعر المواطن في لبنان الخطر من تعاظم الدور الأميركي في شؤونه الداخلية، وكأنه »البديل الشرعي« من الدور السوري.
ان المبالغة الأميركية في امتداح تعلق اللبنانيين بالديموقراطية وحق وطنهم الصغير في السيادة والاستقلال، تثير في نفوسهم من الريبة أكثر مما تستولد فيها من الارتياح. ذلك انهم منذ »تفويض سوريا بالشأن اللبناني« قبل أربع عشرة سنة لم يسمعوا مثل هذا المديح الذي يكاد يسكرهم بالغرور!
ومع أن اللبنانيين يريدون خاتمة طبيعية للوجود العسكري السوري في لبنان، عبر اتفاق طبيعي بين حكومتي البلدين، إلا انهم لا يريدون »الأميركي« بديلاً من »السوري«، كما لا يريدونه »وسيطاً« بين الدولتين اللتين طالما سمعوا الوعود بالعمل على تقنين تكاملهما لما فيه خيرهما معاً.
ان اللبنانيين يأخذون على سلطتهم انها اضعف مما يجوز، وأنها أقل خيالاً وقدرة على معالجة شؤونهم، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، مما ينبغي. وأن ضعفها كان بين أسباب التشوّه الذي اصاب العلاقات اللبنانية السورية، دون ان يبرّئوا الطرف السوري من المسؤولية عن هذا التشوّه.
لكن الولايات المتحدة ليست في أي مكان في العالم طرفاً محايداً ووسيطاً نزيهاً… فكيف في لبنان ومع سوريا التي استصدرت لها القوانين لمعاقبتها ومحاسبتها… وكيف و»الوسيط« الأميركي هو ذلك الذي يزور بيروت ويمضي فيها أربعة أيام، من المباحثات والمفاوضات والتفاهمات مع المعارضين، أو بعضهم، بينما هو في الطريق إلى منصبه الجديد كمعاون للمفوّض الأميركي السامي في العراق تحت الاحتلال الأميركي؟!
ان ذكريات اللبنانيين عن التدخل الدولي في شؤونهم الداخلية، ومن بينها العلاقات مع سوريا (أو حتى مع الفلسطينيين) سوداء وفي غاية المرارة.
وهم لا يريدون »الانتداب الأميركي« بديلاً من »التدخل السوري« في الشؤون الداخلية لبلدهم.
كذلك لا يريدون ان تتولى الإدارة الأميركية، التي لم يعرف عنها الود تجاه العرب أجمعين، إعادة صياغة النظام اللبناني، على الطريقة الأفغانية أو العراقية..
… ولا يريدون على وجه الخصوص ان تبدو الإدارة الأميركية وكأنها الموجه السياسي للمعارضات في لبنان… فبين المعارضين رجال دولة ووطنيون وأهل سياسة يعرفون هشاشة النظام السياسي وحساسية مواطنيهم حيال التدخل الأجنبي، ويعرفون من ثم كيف يسهمون في إعادة بناء الحياة السياسية بما يحمي الثوابت الوطنية في لبنان.
ومع ان الموفد الأميركي قد خفف من لهجته العدائية عن »حزب الله«، لأسباب تكتيكية مفهومة، إلا ان موقف إدارته معلن وقد كررت اعلانه مرات ومرات بحيث بات نهجاً. ومثل هذا الموقف، في جملة أمور أخرى منها طبعية العلاقة الملتبسة بين واشنطن ودمشق لا تترك مجالاً وسيعاً لحسن النية.
* * *
لقد تصدّع جدار الأمان.
ولعل المهمة الأولى للمعارضات ان تساعد على ترميم جدار الأمان هذا، لطمأنة اللبنانيين إلى انهم قادرون على حماية غدهم، بتدعيم وحدتهم الوطنية، وبحماية هذا القدر من الديموقراطية التي تصون نظامهم، وكذلك بترميم العلاقات اللبنانية السورية التي يبدو ان دمشق قد تنبهت أخيراً إلى ما أصابها من ضرر وهو عظيم.
ولعل رفيق الحريري يطالب الجميع، من عليائه، بمثل هذه المهمة النبيلة والضرورية لحماية لبنان واللبنانيين وحماية موقفه في قلوبهم.

Exit mobile version