طلال سلمان

تفاهم نيسان ثاني اعادة اعتبار الى اتفاق طائف

هي مصادفة قدرية أن يتزامن »تفاهم نيسان« الجديد حول إعادة صياغة السلطة في لبنان بما يعيد إليها وإليه بعض التوازن الذي ذهبت به جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، مع »تفاهم نيسان« الأول 1996 الذي ساهم في حماية لبنان، دولة مهددة بالتصدع وشعباً مهدداً بالقتل والتهجير ومقاومة باسلة استحقت بصمودها الاعتراف الدولي بشرعيتها، فضلاً عن الاحتضان الشعبي الذي جعلها قدوة لكل المقهورين بالاحتلال.
لكنها ليست مصادفة أن يكون لفرنسا جاك شيراك، دولياً، دور مميز واستثنائي في إنجاز »التفاهمين«، الأول إلى جانب لبنان وسوريا وفي مواجهة إسرائيل والإدارة الأميركية، والثاني إلى جانب المملكة العربية السعودية بشخص ولي عهدها الأمير عبد الله، ومع تحييد أطراف دولية كالإدارة الأميركية، وحتى لا يكون »التفاهم« على حساب سوريا، وبالاستطراد هوية لبنان الأصلية.
وليست مصادفة بأي حال أن يكون لرفيق الحريري رئيس الحكومة، و»رجل العرب الدولي« دور متميز في صياغة التفاهم الأول، ولروحه (ومعها أسرته) دور أساسي في صياغة التفاهم الجديد الذي يفتح الباب أمام حل سياسي لأزمة النظام في لبنان، وليس فقط لارتباك السلطة وتبعثرها وعجزها طوال شهرين تقريباً عن تشكيل حكومة مؤهلة لمواجهة المسؤوليات البديهية وأبرزها إنجاز الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري بعد إقرار القانون اللازم لها.
و»تفاهم نيسان« الجديد يتجاوز »الحكومة« ليعيد الاعتبار إلى بعض الثوابت التي من دونها لا مجال لمعالجة أزمة النظام السياسي في لبنان وأخطرها هو »اتفاق الطائف« الذي كانت بعض أطراف المعارضة تحاول اغتياله بذريعة الثأر لدماء رفيق الحريري، وهو أحد أبرز مهندسيه وأعظم ضحايا الخلل في تنفيذه جدياً كقاعدة للحكم تحفظ للبلاد ثوابتها بقدر ما تحقق في السلطة توازنها المفتقد منذ سنوات طويلة.
لسنا فقط أمام تشكيل حكومة جديدة بمهمة وحيدة هي إجراء الانتخابات.
إن لبنان الذي فقد الكثير من عوامل توازنه (وازدهاره) مع تجارب السلطة المستقيلة من دورها منذ سنوات طويلة، ثم فقد ثقته نهائياً بهذه السلطة مع استشهاد رفيق الحريري، الذي لا يمكن تبرئتها أقله من التقصير في حمايته ثم من التصرف على طريقة »كاد المريب أن يقول خذوني« في التحقيق بهذه الجريمة الزلزال، كان يحتاج فعلاً إلى معجزة لكي يستعيد توازنه المفقود، خصوصاً بعد اللجوء إلى الشارع بطريقة هددت بتصديع الإجماع الوطني حول ما كان يمثله رفيق الحريري وحول ما تستهدفه جريمة اغتياله.
ولقد تبلور هذا التصدع في العجز عن إقامة حكومة جديدة، بعدما خشيت المعارضات المؤتلفة أن تذهب »حكومة الاتحاد الوطني« بتلاقيها الطارئ والاضطراري من حول الرئيس الشهيد، وبعدما عجز أهل السلطة عن تشكيل »حكومتهم«، أو حتى الحكومة المقبولة من جميع الأطراف لحيدتها ونزاهتها الموعودة.
وإذا ما افترضنا أن التطورات الدراماتيكية التي شهدها لبنان قد ضربت »الحزب الحاكم« وهو لم يكن حزباً بأي حال وخلخلته، فإن معظم الفضل في الانتصار يذهب إلى روح الشهيد وإلى القيمين على رسالته.. وبالتالي فقد كان متعذراً على المعارضة بتلاوينها المختلفة أن تستثمر هزيمة السلطة بكفاءة، أولاً لأنها ليست موحدة فعلياً في أهدافها (الأصلية)، وثانياً لأن العديد من فصائلها كانت على خلاف جدي مع رفيق الحريري حول ثوابته، وهي تجد نفسها الآن على مسافة مع وليد جنبلاط الذي يعيد التوكيد على تلك الثوابت، فكيف مع أسرة الشهيد التي ترى في حفظ عروبته ورسالته ما يحمي دمه وذكراه، وترفض بطبيعة الحال أن يتحول وهو شهيد إلى استثمار سياسي لمن كانوا خصوم مبادئه وثوابته السياسية المتصلة بهوية لبنان وبالإصلاحات الضرورية في نظامه السياسي.
وإذا كان التباين بين المعارضات قد تجلى حول قانون الانتخابات فإنه في حقيقة أمره يتجاوز ذلك بكثير رجوعاً إلى اتفاق الطائف، بصيغته الأصلية التي لم تنفذ كاملة في أي يوم.
من هنا فقد برز لا سيما في الأيام القليلة الماضية منظوران للتغيير المطلوب:
؟ منطق المنظور الأول، المعارض جذرياً، يقوم على القول بأن الحقبة الماضية (وهو يعطيها عنوان الحقبة السورية) كانت »مرحلة استثنائية، وكنا فيها مغلوبين على أمرنا فخضعنا لتوازنات القوى وسلمنا بالطائف على مضض… أما الآن وقد انتهت تلك الحقبة وجاءنا »التدويل« ليفرض الحصار على سوريا، ثم إن جريمة الاغتيال قد أزاحت من طريقنا المحامي الأبرز عن اتفاق الطائف والداعية الأكفأ في المطالبة باستكمال تطبيقه، فإن الفرصة سانحة الآن لأن نتسلح »بالدول« لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الطائف«.
؟ أما المنطق الثاني، وهو الأساسي في المعارضة، فيقوم على التنويه بأن المرحلة السابقة على اغتيال الشهيد الحريري كانت استثنائية فعلاً، وكنا مضطرين إلى حمايتها ببعض التنازلات، استجابة لطلب من دمشق غالباً، التي كانت تتعهد بتوفير الضمانات للجميع.
.. وطالما أن البحث قد انفتح مجدداً، وارتفعت الأصوات المعارضة بالأصل لاتفاق الطائف، مستقوية بإنهاء »الحقبة السورية« بنوع من »التدخل الدولي« الذي افترض البعض أنه يمكن تحويله إلى وصاية، فلا بد من أن نستكمل ما كانت تمت المباشرة بتنفيذه من اتفاق الطائف وصولاً به إلى ذروته ممثلة بإلغاء الطائفية السياسية.
وكان هذا المنطق يستند إلى بعض دلالات نزول اللبنانيين إلى الشارع، وظهورهم بمظهر من توحد حول الأهداف والمبادئ الأصلية كالحرية والسيادة والاستقلال والديموقراطية..
كذلك فهو كان يستند إلى التناقض الصارخ بين الاستمرار في اعتماد الطائفية السياسية قاعدة للحكم وبين هذه الشعارات المتوهجة بالحماسة، التي لا يمكن أن تخفي التفارق حول دلالاتها الفعلية بين أطراف المعارضة قبل أن نصل إلى التمايز حول الموقف من السلطة نفسها وهل حان أوان الانقلاب عليها وإسقاطها بالاتكاء على التدخل الدولي، أم الاكتفاء بانتزاع المطالب الجوهرية وإرجاء كل ما عدا ذلك مما يتصل بإعادة تشكيل السلطة إلى ما بعد الانتخابات ونتائجها التي ستكون، على الأرجح، بمثابة انقلاب سلمي.
فالانتخابات بحد ذاتها استثمار ممتاز للمعارضة، وبهذا التوقيت تحديداً.. ولكنها عند الدخول في التفاصيل، بدءاً بالقانون وتقسيم الدوائر وانتهاءً بالأهداف الفعلية المطلوبة منها، تنقسم على ذاتها، فيكون لبعض »قرنة شهوان« موقف مختلف عن بعضها الآخر، ويكون للتيار العوني موقف يختلف جذرياً عن موقف »القرنة« ويكون لأسرة الشهيد رفيق الحريري ومعها وليد جنبلاط ومجموع المتمسكين باتفاق الطائف وبضرورة استكمال تنفيذه، وبينهم »حزب الله« وعدد من القوى التي كانت منضوية تحت لافتة »عين التينة« موقف متمايز إلى حد التناقض مع أولئك المتشبثين بتثبيت النظام الطوائفي ديموقراطياً!! عبر الانتخابات تمهيداً للخروج من اتفاق الطائف، بدءاً من اعتماد قانون للانتخاب يتناقض جوهرياً معه.
* * *
إن »تفاهم نيسان« الثاني يعيد الأمور إلى نصابها في الجوهري من المسائل المطروحة الآن للنقاش:
فهو يعيد الاعتبار إلى اتفاق الطائف بما هو أساس للنظام السياسي القائم، مع إلحاح أطرافه المحليين (جنبلاط وآل الحريري و»حزب الله« وربما ميشال عون وقوى أخرى) على ضرورة استكمال تنفيذه.
ثم إنه يفتح الباب لإعادة صياغة العلاقات اللبنانية السورية بما يحفظ علاقات الأخوة والمصالح المشتركة بين الدولتين، خصوصاً أن دمشق قد التزمت تعهدها وسحبت جيشها ومخابراتها من لبنان منفذة ما يعنيها من القرار الدولي 1559.
بالمقابل فإن الموقف الرسمي للسلطة يتقاطع مع موقف القوى الأساسية في المعارضة والقائلة بأن للبنان رأيه الخاص في سائر بنود القرار الدولي، وهو غير ملزم بنصوص هذا القرار في ما يتصل بالمقاومة خصوصاً ثم بالوجود الفلسطيني فيه.
وبالتالي فإن مهمة الحكومة الجديد تتجاوز بمضمونها إجراء الانتخابات لتؤكد الالتزام بجوهر »تفاهم نيسان« الثاني الذي يمكن اعتباره، تجاوزاً، بأنه »الطبعة الجديدة« من اتفاق الطائف… بمعزل عن مواقف الأطراف المختلفة بما فيها بعض السلطة من هذا الاتفاق الذي اكتسب مزيداً من الوجاهة والشرعية بعدما مهره رفيق الحريري بدمه شهيداً.

Exit mobile version