طلال سلمان

تفاصيل »مختارة« عن »الدول« لبنانية وحكامها كثيرين

الحديث عن التفاصيل اللبنانية ترف في كل وقت، فكيف اليوم والعالم مشغول البال وغارق حتى أذنيه في متابعة فصول »الحرب المقدسة« ضد أطفال المعدَمين من أهل أفغانستان، والبيوت التي من خشب وتراب، والتي تتبارى في دكها وتسويتها بالقبور أقوى القلاع الطائرة المزودة بأقوى المدافع وأعظم الصواريخ فتكاً وطاقة على التدمير… وكل ذلك تحت عنوان »القضاء على الإرهاب الدولي« وإسقاط »حكومة طالبان« والقبض على أسامة بن لادن حياً أو ميتاً لمحاكمته أمام »العدالة بلا حدود« للقانوني الأعظم جورج و. بوش.
لكن التفاصيل اللبنانية تفرض نفسها، بين الحين والآخر، كشر لا بد منه. والحديث فيها وعنها قد ينفع في التخفيف من همومنا مقارنة بمصائب غيرنا.
كذلك، فالحديث في التفاصيل اللبنانية قد يبدو وكأنه خيانة مقصودة لفلسطين المغدورة والمنسية والمتروكة لإرهاب الدولة الإسرائيلية: يقطِّع أوصالها بالدبابات ويقتل رجالها ونساءها وأطفالها والشيوخ، على مدار الساعة، اغتيالاً ونسفاً، ويدمر منشآتها القليلة فضلاً عن البيوت والمدارس والدكاكين وأكواخ الصفيح في مخيمات »اللجوء داخل الوطن«…
لكن فلسطين لها رَبّ يرعاها، ولها المجاهدون الأبرار يقومون من قلب الموت فيضربون أقوى جيش في المنطقة، ويوجهون هجمات صاعقة ضد أشرس الميليشيات العنصرية عبر التاريخ؛ المستوطنين، فيفرّقون صفوفها، ويمزّقون »هيبتها«، ويدفعون »أبطالها« إلى طلب النجاة ولو بالعودة إلى الديار التي استُقدموا منها بوعود »العودة« إلى »الجنة الضائعة«.
وها هم قد ردّوا بالأمس ولو رمزياً على المجازر الجديدة التي ارتكبها أبطال إرهاب الدولة من »جنود النخبة« في بيت لحم وبيت ريم وبيت جالا وكل البيوت الفلسطينية، وسيردون غداً، مع أنهم وحدهم يقاتلون، ووحدهم يواجهون، ووحدهم يستشهدون!
ذلك أن إعلامنا العربي الهمام، المرئي منه والمسموع والمكتوب بالأقلام المذهبة، »غاطس« في متابعة أو التغطية على حقيقة الحرب الظالمة في أفغانستان، انطلاقاً من باكستان الجنرال مشرّف، وقد أوفد العشرات من المراسلين والمراسلات الفضائيين الفضائيات إلى بيشاور لكي يعرّفونا كيف يؤدّب الأميركيون المدن العاصية؛ كابول وقندهار وحيرات، فضلاً عن مزار شريف، فيبدو إذ ذاك أن الإسرائيليين »أرحم« من حليفهم الأكبر، في الناصرة وبيت لحم والقدس الشريفة، بالمسجد الأقصى ومسجد عمر وقبة الصخرة فيه.
* * *
ماذا في آخر التفاصيل اللبنانية، باعتبارها مسلسلاً لا ختام لحلقاته؟!
آخر التفاصيل يتصل بالصراع بين »الدول« اللبنانية، حيث يتبادل »الحكام« الأدوار فيستحيل رسم شبكة للكراسي الموسيقية التي يتناوبون عليها.
فليس أكثر من »الدول« داخل هذه »الدولة« اللبنانية الصغيرة، إلا »الرؤساء« من الحكام، الذين يعطلون الحكومة المركزية وينفون وحدة الدولة وقرارها.
هناك، للمثال، دولة »السياسة الخارجية« و»المواجهة« و»الحفاظ على روح المقاومة وجذوتها« ورفض الإنذارات الإسرائيلية والتهديدات الأميركية، ورمزها معروف يكرز فعل إيمانه على اللبنانيين كل يوم، ويبلغه إلى الموفدين الأجانب جميعاً: مَن يأتي منهم »ناصحاً«، ومَن يأتي »مستوضحاً« الواضحَ، أو مَن يأتي »متضامناً« من موقع التحريض على مزيد من اللعب بالنار، »لأن الأميركيين مشغولون بغيرنا«… فضلاً عن الذي يأتي »سائحاً« تحت لافتة الفرنكوفونية ومشتقاتها.
وهناك، بالمقابل، دولة السياسة المالية والإجراءات الاقتصادية وتأمين المزيد من الديون للوفاء بالأعباء الثقيلة لخدمة الدين والاستقرار النقدي، ورمزها أيضاً معروف، يطلق التطمينات يميناً وشمالاً، ويطير مرة إلى الشرق، ومرات إلى الغرب، يجادل، يناور، يروّج ويزيّن مباهج الاستثمار في »الجنة الضريبية«.
لكنه يظل مشغول البال من الداخل مهما نجح في الخارج.
ويظل يلتفت خلفه ليطمئنّ إلى أن »شركاءه« لم يخرّبوا عليه ما يحاول »بيعه« للغرباء.
وهناك دولة التشريع المتصلة المنفصلة، المستقلة بذاتها ما استمر خلاف الدول الأخرى من فوقها ومن حولها، وتلك حالة نموذجية لجني الأرباح وتجنب الخسائر بالمبادلة!
هناك، أيضاً، بعد الزعماء الكثر، دولة الإدارة، ودولة الأجهزة، ودولة القضاء، دولة الضمان الاجتماعي ودولة المؤسسات العامة، وبينها الكهرباء التي »تنوّر« علينا في كل مجال.
فما يكون في بلاد الغير، بالضرورة، حكماً مركزياً لدولة موحدة، ينقسم على ذاته عندنا أفرقاء، ويقسم الدولة دولاً وإدارات متناكفة، على قواعد طائفية أو مذهبية.
وهكذا، وفق الآلية الجديدة التي ابتُدعت لملء الشواغر أو كقاعدة للتعيينات، ستوزَّع الوزاراتُ وإداراتها على الطوائف والمذاهب: هذه للموارنة اليوم وغداً وكل يوم، وتلك للسُّنة كابراً عن كابر. هذه للشيعة حتى يوم القيامة، وتلك للأرثوذكس بلا جدال. هذه للدروز بغير نقاش وتلك للأرمن إلى قيام الساعة…
كذلك الجامعة الوطنية، لا يبقى منها للوطن إلا لافتتها، أما كلياتها والفروع فتتوزَّع، عمداءَ ومديرين ومباني، على الطوائف والمذاهب جميعاً، حتى لا يبقى »كتاب« أو »مرجع« خارج التصنيف!
ما قيمة الشهادات إذا اختل التوازن بتوحيد الفروع، أو لحق الغبن بمذهب فتم »تجاهله« عند توزيع المغانم: لتكن العدالة في الحصص حتى لو ذهبت الجامعة إلى الجحيم، فغياب العدالة يفجر الوضع. أما أن تخلي الجامعة الرسمية مكانها للجامعات الخاصة فهذه ضمانة للسلم الأهلي!
* * *
في ظل صراع »الحكام« المتنافسين في الدول المتخاصمة داخل »الدولة المركزية«، يصبح تقرير دوريّ لصندوق النقد الدولي سلاحاً فتاكاً ضد ومع، في الوقت نفسه، وحسب مَن يستخدمه ولأي غرض.
… مع أن صندوق النقد »بيت سيئ السمعة« وله تاريخ أسود مع الشعوب، وطالما اعتُبر أداة في أيدي الأميركيين أساساً، لتأديب الحكومات العاصية التي تتولى زمام الأمور في البلاد الفقيرة الموارد، ولم يكن مرة، وفي أي بلد، شهادةَ حسن سلوك لأي حكومة… بل إن اللجوء إليه كثيراً ما استُخدم كدليل على نقص الكفاءة أو نقص الحس الاجتماعي لدى الحكم القائم في البلد المعني. وفي معظم بلدان العالم الثالث، سقط شهداء في الشوارع اعتراضاً على اللجوء إلى عدو الفقراء؛ صندوق النقد الدولي، الذي يوصي أول ما يوصي برفع الدعم عن رغيف الفقراء، بينما الأغنياء يحصدون الأرباح يميناً ويساراً، ولا يدفعون الحد الأدنى من الضرائب!
وهكذا، نتيجة انقسام الحكم المركزي على نفسه، صارت لتقرير صندوق النقد »ترجمتان«؛ إحداهما تشهد للحكومة فتستشهد بها حتى الإضجار، والثانية متحفظة تنبه وتحذر ولا تطمئن، فتوجَّه إلى مَن قرأها أو نشرها أو أشار إليها تهمةُ التزوير وتخريب الاقتصاد الوطني!
والصح ألا نُضطر إلى اللجوء إلى هذه المؤسسة التي لم يشتهر عنها، بأي حال، أنها من أنصار العدل الاجتماعي، أو أنها تشكل مصدر تزكية »لازدهار« الدول التي تلجأ إليها!
* * *
وتبقى كلمة عن »المختارة« باعتبارها »دولة كل الدول« ومرجعَ كل »الحكام«… فوليد جنبلاط أوسع من أن يحتويه تحالف، وأقوى من أن يضمه »تجمع«، لا يُحصَر في »قرنة«، ويضيق به المنبر الواحد مهما كان »ديموقراطياً«.
ها هي »المختارة« تستثني نفسها ويستثنيها حكام »الدول« جميعاً، وتتجاوز صراع الديكة لتغدو »فوق الجميع«: يتناوب الحكام على خَطْب ودها، ويحاول كل منهم كسبها إلى جانبه، وهي تستقبل ولا توالي، تشارك ولا تتوقف عن المعارضة، تحالف بشروطها فلا تكون طرفاً وإن احتفظت بحق »الفيتو«. تستقبل العماد« ابن لحود وهي التي ترفع لواء الاعتراض على »العسكرة«. ولعل بين قواعد التلاقي الخصومة المشتركة للشهابية، وإن كان طرف يعترض على رأسها، والآخر يعترض على »أجهزتها«.
فوليد جنبلاط »قاسم مشترك أعظم« بين الدول المتعددة والحكام المختلفين والمعارضات التي لا تعرف كيف تتوحد. وهو يفضل أن يُبقي يديه حرتين؛ يأخذ من الحكم بمختلف رموزه ومن المعارضات، يتنازل في الشكل ليكسب في المضمون، بينما سائر »الحكام« يسعون إلى تعويض خسائرهم في المضمون بمكاسب في الشكل، يعرفون كما يعرف الناس أنها لن تعمر طويلاً، ولن تبدل في حقائق الوضع القائم.
لقد »انسحب« وليد جنبلاط من داخل قصر بيت الدين، لكن بيت الدين عادت بكليتها مرة أخرى إلى أفياء »الدوحة الجنبلاطية« الشاملة الآن جبلَ المهجّرين جميعاً، والمظلَّلة الآن ببركات البطريرك الماروني.
وهذا نصر آخر ومتأخر على »الشهابية« التي تؤكد »اللحودية« كل ساعة أنها ضدها في المضمون، حتى لو بدت متشابهة معها في الشكل.
والتفاصيل اللبنانية حكاية بلا نهاية… تكفي هذه »النبذة« اليوم!

Exit mobile version