طلال سلمان

تغيير امر

من حق الرئيس إميل لحود أن يشعر بشيء من خيبة الأمل في »الشعب«: لقد افترض أنه سيكون معه في معركته ضد »الطبقة السياسية« فخذله، ونصرها عليه، أو أنه وقف محايدا أو غير مبال، برغم أن هذا »الشعب« لا يحتاج برهانا على فساد هذه الطبقة السياسية وعجزها عن تلبية مطالبه، وقصورها الفاضح عن أن تكون في مستوى تطلعاته إلى حياة ديموقراطية سليمة.
بل إن هذا »الشعب« يعرف عن هذه »الطبقة السياسية«، وبالتجربة المرّة، وبالمعايشة القاسية، ما لا يعرفه الرئيس لحود الذي كان دائما بعيدا عن المعترك السياسي، وأحكامه عليه »بالسمع« أو أنها »مبدئية« أو بالأحرى »أخلاقية« في حين أن السياسة لا تعترف بالأخلاق كمعيار ولا تتوسلها للنجاح.
ومع أن هذا »الشعب« قد علّق آمالاً عريضة على العهد الذي أتى معززا بالإجماع، والذي »اقتيدت« الطبقة السياسية إلى تأييده بسلاسل المصالح والمنافع، إلا أنه لم يفترض لحظة ان الطريق الى الآمال محكومة بأن تمر بانقلاب شامل وتغيير جذري، بين عشية وضحاها، في الحياة السياسية.
ذلك أن »الشعب« يعرف بخبرته العميقة ان التغيير عملية معقدة وطويلة المدى ومكلفة، فلا هي تحدث بالأمر، ولا هي تتم بالرغبة وحدها، ولا يمكن إنجازها بالثورة في بلد شديد التنوع في الطوائف والمذاهب والأعراف والأمزجة والحساسيات، وعظيم التمسك بالتقاليد الموروثة والولاءات الموروثة بمعزل عن ادعاءات التحرر والتقدمية و… العلمانية!
تكفي نظرة واحدة إلى سجل »العائلات الحاكمة« في لبنان، والتي طالما أعطت النواب والوزراء ورؤساء الحكومات (ورؤساء الجمهورية، إذا ما انتبهنا إلى صلات النسب والقربى في ما بين أسرهم الخوري إده حلو، على سبيل المثال)..
إنهم يتوارثون الزعامة كابراً عن كابر، ويقدمون لكل جيل »زعيمه« منهم، وبما يتناسب مع المرحلة: فإن كانت روح الاستقلال هي الغالبة انتقلوا من أحضان الانتداب إلى بشامون وهم يرطنون بالفرنسية، وإن انتبهوا إلى نفوذ بريطانيا علَّموا أبناءهم الإنكليزية، وإن استفاقوا إلى تأثير الجوار السوري صاهروا دمشق وحلب واللاذقية وحوران، فإن ارتفعت أسهم مصر نطقوا »الجيم« معطشة ورفعوا صور عبد الناصر (أو السادات) وقصدوا القاهرة مرتين في اليوم، فلما جاءت المقاومة الفلسطينية غطوا رؤوسهم بالكوفيات المرقطة وحملوا الرشاشات وأطلقوا النار في الهواء والشائعات السامة على خصومهم، أما حين اجتاح الاحتلال الإسرائيلي لبنان فقد لبّوا النداء خفافاً وانتخبوا رئيسين للجمهورية بدلاً من واحد بما يرضي المحتل ويحفظ لهم المكان والمكانة والمنافع..
كيف يتسق التغيير مع ثبات الزعامة وتوارث »البيوتات العريقة« تمثيل »الشعب« والتعبير عن إرادته؟!
حتى الأحزاب سقطت في هذا الفخ، فصارت إرثا ينتقل من الجد إلى الحفيد، لأن مرتكزاتها في الطوائف أكثر مما هي في الأفكار والعقائد.
لا بد، اذن، من دراسة متأنية لإمكان التغيير وادواته ومداه وما يحتاجه من زمن… فمن طلب التغيير قبل اوانه عوقب بحرمانه!
ثم… من هو البديل؟!
المؤكد ان اللبنانيين ليسوا مع »الانقلاب«، وهم مع كل مآخذهم على الطبقة السياسية لا يرضون الضباط بديلا من »زعمائهم« أو »ممثليهم« و»سياسييهم« اجمالا، حتى المشكوك في شرعية تمثيلهم، وخصوصا انهم يعرفون ان اكثرية الضباط هم »ابناء شرعيون«، واحيانا »غير شرعيين« للطبقة السياسية ذاتها.
والمؤكد ان اللبنانيين ضد الحرب الاهلية، وبالتالي فهم ضد استعداء الدولة على طائفة، وضد اضطهاد طائفة بفرض من يمثلها… وغالبا ما يسلمون بتمثيل أشوه حتى لا تكون فتنة إذا استثيرت طائفة بالقول ان »قيادتها« قد فُرضت عليها فرضاً، بقوة السلطة او بضغط الطوائف الاخرى.
ويدرك اللبنانيون، بواقع تجربتهم المرّة، ان الصدام غير المدروس مع الطبقة السياسية، والهجوم العشوائي عليها بكل رموزها معا، ينتهي الى فشل ذريع، ويزكيها مجددا.
وهم قد دفعوا الثمن غاليا في تجربة الميليشيات التي اعادت احياء اسوأ رموز الحياة السياسية، ويخشون ان تتكرر المأساة، ولو بذرائع جديدة.
الطريف ان الطبقة السياسية قد اعادت تأكيد زعامتها بالميليشيات حين وجدت ان ذلك هو طريق »التجدد« والاستمرار.
وها هي الآن تعيد انتاج ذاتها بالانتخاب الشعبي، اي: ديموقراطياً!
هذا كله يستدعي اعادة نظر جدية في شعار المواجهة وفي اسلوبها، وفي استهدافاتها الفعلية.
فقط من اجل ان يبقى لهذا »الشعب« الحد الادنى من الامل، في تغيير معقول، وبالاسلوب الديموقراطي، ولو منتقصا، فذلك أفضل من خوض معركة اخرى خاسرة، »بأدوات« مطعون في حقيقة اختلافها عن المشكو منهم، فهي من الطبقة نفسها ولعلها ليست »الأنظف« أو »الأكفأ« أو »الأصح تمثيلا »للشعب«.
وفي كل الحالات فالتغيير بالأمر ينتهي الى الأسوأ.
إضافة الى ان اللبنانيين لا يحبون أن يُقادوا ولو الى الجنة بالسلاسل!

Exit mobile version