طلال سلمان

تعطيل بمنافقة مسيحيين

قد يرضي غرور اللبنانيين أن يفترضوا أنهم قد غيّروا وبدّلوا في كثير من قواعد العمل السياسي والدبلوماسي على المستوى الدولي: لعل وطنهم أحد أصغر الدول ، لكنهم بشغبهم وخروجهم على المألوف وعنادهم ونكاياتهم بعضهم بالبعض الآخر، واستثمارهم الطائفية في السياسة، والسياسة في المذهبية، قد أجبروا أكبر وأقوى دولة علمانية في العالم على أن تغرق في مستنقعهم الطائفي الذي يكادون يختنقون فيه.
على امتداد أربع وعشرين ساعة، طاف مَن أوفدته الإدارة الأميركية، مساعد الوزيرة الاستثنائية السمراء كوندليسا رايس، ديفيد ولش، على القيادات السياسية والعسكرية، مع استثناء وحيد وجديد بات مؤخراً من التقاليد المرعية في قواعد التعامل مع الأزمة السياسية في لبنان وهو: البدء من بكركي.
ولأن الأميركيين يعتمدون دبلوماسية القوة، فيقرّرون ويبلّغون ويتعهّدون وقد يبدّلون أو يغيّرون بغير خشية من اللوم أو التأنيب ، فقد أعلن الموفد الرئاسي لأخطر دولة في العالم، والذي جاء على جناح السرعة قادماً من إسرائيل حيث اطمأن على أوضاع فلسطينيي السلطة في ظل المفاوضات مع الاحتلال، أنه إنما يأتي إلى لبنان بمهمة محددة هي: تطمين المسيحيين!
وانسجاماً مع طبيعة مهمته فهو قد كتب في السجل الذهبي للبطريركية المارونية ما عاد فأعلنه بعد اللقاء مع من مجد لبنان أعطي له ، البطريرك صفير، من أنه جاء ليعرب عن دعم بلاده لأبناء الطائفة المسيحية !
بعدها طاف الموفد الرئاسي الأميركي على معظم القيادات المسيحية، فلم يستثن إلا من خرج من بيت الطاعة، وأعلن موقفاً لا تقبل به الإدارة ، مع إنه وحتى إشعار آخر الزعيم المسيحي الأوسع شعبية!
لكأنما جاء ديفيد ولش لينسف احتمال التوافق على الخروج من المأزق السياسي الخطير الذي يهدد الكيان ، وموقع المسيحيين فيه بالدرجة الأولى… فرسالة التطمين هذه يمكن قراءتها على أنها تحريض للأكثرية، بل هي كذلك فعلاً بغير التوغل في الاجتهاد:
أُرسلتُ إلى هنا من قبل الرئيس الأميركي ووزيرة الخارجية لأعلن الدعم الأميركي لشعب لبنان، ودعمنا القوي للأكثرية المنتخبة ديموقراطياً في البرلمان، وللحكومة الدستورية ومؤسساتها… .

كيف لا ينسف هذا التحريض مشروع التسوية الوفاقية الذي كان العمل جارياً لإتمامه، وكان معظم الأطراف يجهرون بتأييده، ولو بشيء من التحفظ الذي يمكن إسقاطه بالتلاقي؟!
كان النقاش حول تعديل الدستور وكيفيته، وهل يمكن تجاوز الحكومة أم لا، لأن الهدف الأصلي هو انتخاب الرئيس (المتوافق عليه) بأقصى سرعة ممكنة…
… فما معنى الموقف الأميركي الرسمي يعلنه الموفد الرئاسي الذي باشر مهمته بزيارة بكركي، من أمام باب رئيس الحكومة: في الظروف الحالية التي يمر بها لبنان سنقف إلى جانب أولئك الذين يمثلون المؤسسات الشرعية. سندعم الحكومة، والرئيس فؤاد السنيورة، ونشيد بأدائه في الظروف الصعبة جداً، وسنقف إلى جانب الأكثرية في البرلمان ؟!
كيف يمكن، إذن، إتمام التوافق على العماد ميشال سليمان بانتخابه فعلاً، بغض النظر عن الطريقة الدستورية لتعديل الدستور؟
لا يترك مساعد وزيرة الخارجية الأميركية اللبنانيين في عراء الجهل بل هو يشفع موقفه السياسي القاطع في انحيازه بتهديد علني: إذا لم يتم انتخاب رئيس للجمهورية ستكون هناك فوضى في البلد، وبالتالي المزيد من الانفجارات !
إنها، مرة أخرى، القاعدة الأميركية الذهبية، ولو مقلوبة…
في العام 1988 كانت كلمة ريتشارد مورفي الشهيرة مخايل الضاهر أو الفوضى .
وفي العام ,2007 يبلغنا ديفيد ولش تهديداً أشد وقعاً: ستكون هناك فوضى، والمزيد من الانفجارات، إذا لم يتم الانتخاب !
لكن الضحية، هذه المرة، هو المرشح التوافقي الذي حاز الإجماع الشعبي والسياسي، وليس طرفاً في خصومة، ولم يرشحه فريق ضد الآخرين…
قبل أن يشرّفنا المستر ولش بزيارته التي أعطاها عنواناً سياسياً فجاً، في محطته الأولى بكركي، مؤكداً دعم بلاده لأبناء الطائفة المسيحية لم تكن ثمة مشكلة معلنة في تحديد هوية من يحوز الإجماع لانتخابه رئيساً: العماد ميشال سليمان.
كان الشعب اللبناني سبق قياداته جميعاً في الاقتراع لقائد الجيش رئيساً. لقد وجد فيه مشروع الحل النموذجي لأزمته السياسية في هذه اللحظة… وخصوصاً أن المسلمين، على الضفتين، قد تسابقوا فزايد بعضهم على بعض في إعلان التأييد للعماد الذي جعلوه رئيساً قبل أن ينتخب في المجلس النيابي… ثم لحق بهم المسيحيون متجاوزين خلافاتهم العميقة بالتوافق عليه رئيس حل .
لكن غيوماً أخذت تظهر في الجو، قبيل قدوم ديفيد ولش، منذرة بتبدل المناخ الوفاقي الذي كان يمكن أن يثمر رئيساً… ثم تأكد التبدل أو التحول مع بداية الأسبوع المنصرم، وأخذ يتزايد حدة حتى تفجّر عواصف من الشتائم والإهانات المتبادلة المستعادة من بدايات تصادم الإرادات والمواقف بالارتباطات وأسباب الدعم، قبل عام أو يزيد…
وهكذا تحولت مهمة ولش في بيروت إلى ما يشبه صاعق التفجير، خصوصاً أنه طوى صفحة الانتخابات الرئاسية، وعاد يبشّر اللبنانيين بأن واشنطن تقف إلى جانب الحكومة المنتخبة ديموقراطياً والأكثرية ، مع تجديد الإشادة بكفاءة الرئيس فؤاد السنيورة الذي يرى كثيرون في استمرار حكومته بديلاً مقبولاً من الانتخابات الرئاسية… حتى لو تناقض ذلك مع التعهد بدعم بلادي القوي لأبناء الطائفة المسيحية(.
في أي حال، منذ ثلاث سنوات كانت الإدارة الأميركية السباقة (ومعها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك) إلى سحب الاعتراف بالعماد إميل لحود رئيساً للجمهورية، وتجاهله، والإساءة إليه وإلى مقامه، والتحريض عليه بكل ما ينتج عن هذه المواقف من أذى معنوي ومادي للموقع الأخطر والأهم الذي يشغله واحد من أبناء الطائفة المسيحية ، إذا ما استعرنا تعبير ولش.
ولن تنفع كلمات ولش وسائر الدبلوماسيين والموفدين في مسح آثار العدوان الغربي أساساً، على الموقع المسيحي الأول في الدولة اللبنانية، بغض النظر عن الذرائع التي لا تعني المسيحيين… وإن كانت قد أشعرتهم بالغبن!
[ [ [
لقد أدى ديفيد ولش مهمته بكفاءة: ألغى الانتخاب الرئاسي، وعطل دور المجلس النيابي، وجدّد الحرب على مختلف الجبهات الداخلية، وأثار الذعر من خلال تهديده بالفوضى وبالتفجيرات.
.. ولقد وجد اللبنانيون العائدون من تشييع فارسهم اللواء فرنسوا الحاج، أنفسهم في زمن آخر، وأمام مهمة مختلفة.
لقد بدّل ديفيد ولش المناخ، وتركنا من جديد، في مواجهة التوافق الصعب على مرشح الإجماع! ولعله ألحق بالمسيحيين إهانة جديدة كمواطنين لهم شرف الرئاسة في هذا الوطن الصغير.

Exit mobile version