طلال سلمان

تعالوا نفكر

تمردت لأفكر. حطمت بعض القواعد وتجاوزت بهدوء بعضا آخر. انعزلت قليلا ولكن لم انفصل. اعتذرت عن حضور مؤتمرات واجتماعات ولقاءات كلها بدون استثناء متخصصة في حرماننا من ممارسة هبة التفكير. امتنعت لساعات عامدا متعمدا عن الاختلاء بهاتفي النقال وجهازي الآيباد والتليفزيون. قاومت بكل النوايا الطيبة وبالاعتذارات المهذبة إغراءات النميمة وقصص الفساد وتقييد الحريات وتسريبات المفاوضات ومناورات صنع السياسة وفضائح آخر رؤساء الدولة الأعظم وصراعات السلطة في بعض دول الخليج، قاومت ونجحت فقد حصلت لنفسي على وقت للتفكير.

***

شد اهتمامي، وربما راعني، ندرة الوقت الذي أمنحه للتفكير. هزني بقوة انتباهي إلى أننى صرت أفضل عدم الاجابة على سؤال أو الاستجابة لحوار تفاديا لبذل جهد البحث عن وقت للتفكير. سألت ولاحظت لأكتشف أنني لست وحيدا أو نادرا بين المعتذرين أحيانا أو كثيرا عن عدم الاجابة تهربا من التفكير. تسرب في داخلي حس بتأنيب الضمير والتقصير بعد كل مرة أقول لا أذكر وأنا أعني في الحقيقة أنني لا أريد أن أفكر. أعرف ويعرف معظم أبناء جيلي أننا، كبارا أو صغارا، كنا نفكر أكثر. كنا نفكر ونحن في انتظار أوتوبيس الجامعة أو جالسين لساعات على مقعد في قطار أو حافلة صحراوية أو على الرمل أو الخضرة في خلوة. كنا نفكر خلال أوقات ممتدة لا نجد فيها ما نفعله غير التفكير. كان التفكير تدريبا محببا. كان أيضا، وما يزال، ضرورة. نحن نفكر لأن علينا مسؤوليات وتحدونا رغبات تنتظر تلبيتها. صحيح أن بعض هذه المسؤوليات والرغبات تلبيها الآن آلات وأجهزة ووسائط متعددة تعتمد على الأفكار المعلبة والجاهزة، الصحيح أيضا أن ثقتنا في معظم هذه “التلبيات” تبقى متدنية لأنها تمر عبرقنوات غير قنوات التفكير المعتادة.

***

قمة متعتي ومن أهم دوافع فضولي منظر طفل يفكر. تماما كما كان ولا يزال يثير اعجابي وخيالي منظر تمثال رودان “رجل يفكر”. لا يقلل من متعتي أن الطفل بعد أن فكر راح يبكي ولا يضعف من اعجابي بتمثال رودان الانتشار الواسع لظاهرة نشر العديد من المؤلفين لصورهم وهم في أوضاع تمثال رودان، أوضاع تفكير عميق. ليس كل من وضع قبضته تحت خده فهو يفكر، كما أن ليس كل من ينصت ساكتا والآخرون يتحدثون فهو يفكر، وليس كل ما يكتب للنشر في الصحف كمقالات رأي وتحليل فهو محصلة تفكير، وليس كل ما ينطق به مسؤول وعظيم فهو قرار أو حكم صادر بعد تفكير. أظن، وأتمنى أن أكون مخطئا، أن نسبة متصاعدة من الناس لم تعد تمنح التفكير المساحة المناسبة والوقت اللازم قبل أن يكتبوا أو يقرروا وقبل أن يفرحوا أو يغضبوا وقبل أن يحبوا ويكرهوا.

***

تعودت ألا أنتظر عملا سديدا من زميل يفكر وهو غاضب. أنا شخصيا لا أفهم أن انسانا مهما درس وتدرب يستطيع أداء وظيفتين في وقت واحد بالكفاءة المرجوة، وفي رأيي ورأي مؤلفي كتاب “العقل المشوش” أن القيام بوظائف متعددة في وقت واحد لا يمكن أن يأتي بنتائج طيبة لأن كل واحدة من الوظيفتين لن تحظى بالوقت اللازم لأدائها على الوجه الأكمل. لا يجوز مثلا إجتماع التفكير والغضب فالتفكير وظيفة والغضب وظيفة ولا يجوز اجتماعهما في وقت واحد. لا أراه تصرفا حكيما أن تعنف أم طفلها بينما هي تفكر في أمر آخر، فهي إما تتسبب في أذي يصيب الطفل أو ترتكب خطأ في تقدير ما تفكر فيه. أراه تصرفا غير حكيم ما يفعله المراقب في امتحان بمقاطعة الطالب للتخفيف عنه أو حتى لتشجيعه، فقد أثبتت جامعة ميللون الأمريكية في دراسة حديثة أن مقاطعة طالب في امتحان يمكن أن تتسبب في خفض مستوى إجابته بنسبة تصل الى 20%، للسبب نفسه أستطيع أن أقدر ما يمكن أن يتسبب فيه وجود هاتف نقال وغيره من أدوات الاتصال الالكتروني في غرف النوم.

***

أغلبنا صار يقضي يومه والهاتف النقال لا يغادر موقعه في يده أو على الأذن، حتى أن باحثا أمريكيا وجد أن ما لايقل عن 12% من عينة بحثه يستخدمون هواتفهم حتى وهم تحت الدش أو مستلقين في أحواض الاستحمام، وأن 9% من العينة لا يتخلون عنه وهم يمارسون الحب. باحثون آخرون سجلوا اعتراف 85% من المبحوثين بأنهم لا يجدون أي وقت للتفكير. سجلو أيضا شهادات 10% تكشف عن أنهم “يظنون أنهم يفكرون”. 5% فقط قالوا إنهم يمارسون وظيفة التفكير بانتظام. بمعيار ديكارت، “أنا أفكر فأنا موجود”، ستطيع أن نقرر أن 85% من الناس الذين نعرفهم ونعاشرهم ونشاهدهم على الشاشات ونستمع الى خطبهم ونطيع أوامرهم أو نتمرد عليهم هم غير موجودين لأنهم لا يفكرون.

***

ذات يوم في عهد من عهود الحكم في مصر انتهزت لحظة صدق لأتعرف على رأي مسؤول إعلامي كبير في مسألة عزوف الناس عن التفكير في السياسة والشأن العام. قال، وفي ظني الآن أن العهود التالية ورثت هذا الرأي حرفيا، قال .. لماذا تريد منهم أن يفكروا ونحن موجودون. نحن هنا لنفكر نيابة عنهم. يومها أدركت سوء المصير الذي نقاد اليه. الزعيم يفكر للشعب والمرشد يفكر لأعضاء الجماعة ورئيس الحزب يفكر لأتباعه ورب البيت يفكر، أو يظن أنه يفكر، لأولاده. لا أحد من هؤلاء يريد للناس أن تفكر.

***

ما أحلى التفكير في غير المألوف والمعتاد. ما أحلى كسر القيود على التفكير. ينصحون الشباب خاصة بشحذ أدوات وطاقة التفكير لديهم بين الحين والآخر ورفض أساليب النقل والحفظ والتقليد. أنصحهم، إن هم أرادوا النصيحة، بأن يقضوا وقتا أطول في الانصات إلى الطبيعة، ينصتون إلى السكون وزقزقة العصافير وإلى صوت الرعد والريح العاتية وأنغام المياه متدفقة في القنوات والأنهار والشلالات. أدعوهم إلى التفكير تحت المطر إن تهيأ لهم الظرف والمكان. قالوا وصدقتهم وما زلت أصدقهم، قالوا .. الحياة كوميديا إذا أنت فكرت وتراجيديا إذا أنت استسلمت وتركت غيرك يفكر لك.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version