هل أنه حلّ سريعا واستقر، أمّ أنّه كان يتغلغل ببطء، ثم هبط مدويّا حتّى استوطن الأماكن والمكامن كلّها؟
هذه بلاد أفلست وماضيّة في طريقها وكأنّها لم تفلس. سياسيّا واجتماعيّا وأخلاقيّا منذ تأسيسها. لكنها، الآن هنا، باتت مفلسة، علنا، اقتصاديا وماليا، مرمي من فيها للعوز والقهر لأجل غير مسمى. غير منظور.
كان الرفاه النسبي، المتفاوت بحسب المناطق والحظوظ والقدرة على النفاق والتحايل، يسمح بغض الطرف والأطراف ويميّع رغبة بالتغيير. كلا، لم يكن هناك “ثوّار” يعملون من أجل إسقاط النظام. كان حاملو جواز سفر هذه الجمهوريّة، ومازالوا، مجموعات متباينة، بينهم المستفيد، والمهاجر والراضي، والعاجز، والجاهل، والثري، والرافض، والعاصي، وبينهم الّذي يكّد لبناء حياة لأبنائه وشيخوخة لائقة لأهله، وبينهم الساعي للرحيل، والمقهور لتعذّر الرحيل، وبين كلّ هؤلاء قلة من سعاة التغيّير: بالقلم، بالفن، بالتذمّر، أو بما تبقى من العمل السياسي والحزبي الفعليين من أجل القضاء على النظام الطائفي المتشابك والطبقيّة وأرباب الاحتكارات، و…السياسات الإقليميّة.
كيف أستتر الطبقي، ويستتر، تحت قناع الطائفي، ثم المذهبي، كي تستمر حفنة من الأسر، يزيد عددها أو ينخفض قليلاً، تتغير أسماؤها أحيانا والوجوه، في تحديد مصير ملايين البشر الذين لا يعرف أحد عددهم بعد؟
كيف كان لهذا العدد من الكفاءات المتميزة في الآداب والفنون والعلوم، وفي الوطنية، في الداخل وفي الخارج، أن يرضى بأن يحكمه من هو دونه حبا لحياته، للحياة كما ينبغي أن تكون؟
منفى العرب، واحة العرب، كتاب العرب، مقهى العرب، ملهى العرب، خمّارة العرب، ملجأ العرب، جامعة العرب، قاهر الفقراء من العرب، وصيّاد الأغنياء منهم، حاضن اللاجئين الفلسطينيين وقامعهم في آن، ممتعض علنا من لجوء النازحين السوريين ومستفيد من الهبات المخصّصة لهم. العنصري والمحتفي بالغريب في آن.
جبل، وبحر، وشنطة تسّوق. مقاومة من الأطياف كافة، أنهت الاحتلال الإسرائيلي ثم عادت وهزمته. مطّبعون ومطبّعات، خونة ووطنيون. وطنيون يختلفون على معنى الوطنية والوطن، خونة كل يرى في خيانته وجهة نظر.
مركز صاخب برّاق متباه، تبقيه الرُشى منغمسا في ذاته، ساع للمزيد من الرقص في الوقت الضائع. وأطراف لا أحد يعرف أسماءها، تعتاش مما يفيض عن غيرها: إن طرحت الأرض ما يسد الجوع، إن توظّف منها أحد في الرتب الدنيا من القطاع العام، إن ضحك القدر في وجه أحد أبنائها واستقبلته بلاد الغربة وخيراتها. بالسرقة، بالخروج عن القانون، بالدعاء، بالصبر الذي بلا نهاية.
مجرد عشرة آلاف وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومترا، ومن في جنوبها لم يزر يوما شمالها والعكس. أفراد يعيش كل في قريته، منطقته، منطقه، جماعته، مذهبه، ولا يعرف كم أن “الآخر” يشبهه، حتى ليكاد يكونه.
كيف يمكن لهذا القدر من الغربة أن ينشأ بين فئات تعيش على أرض لا يفصل أقصاها عن أقصاها أكثر من ساعة أو ساعتين بالسيارة؟
هل تحولت هذه البلاد إلى وطن في السنوات المئة منذ أن أُعلن قيام الدولة؟
سريعا حلّ واستقر، أمّ أنّه كان يتغلغل ببطء، ثم هبط مدويّا حتّى استوطن الأماكن والمكامن كلّها؟
في تلك الطنّطنة، الّتي تحّل في 13 نيسان من كلّ عام، في ذكرى اندلاع الحرب الأهليّة، (بين الأهل). سيعود الخطاب ذاته، محدّثا بحسب ما آلت إليه الأوضاع اليوم، ليسود: فالمتكلّمون هنا صادروا الحداثة والتحديث أيضا.
في تلك الطنّطنة، سيُعلك الكلام ذاتّه على الألسنة ذاتها، كما يحصل كلّ عام، بلا حياء.
لم يحلّ سريعا، بل كان يتغلغل ببطء. وكنّا نراه في تغلّغله.
وتلك الحرب، لمَ نحيى ذكراها هي دون عن سواها؟
كم من حرب غيرها وقعت على هذه الأرض؟ كم من حرب تدور رحاها اليوم بين زحام الركام الذي يسمى حياتنا؟
متى كانت هذه الرقعة الجغرافية وطنا؟
لم نحيى ذكراها ويومياتها المضنية وهي مازالت تعشش في مكانها بين الضلوع وبين الرئتين، تطبق على الصدور، وتلوث ما نتنفسه ونراه ونسمعه ونقوله ونفعله، فيما نحن نمعن دوما في رفض ولوج الطريق المؤلم الوحيد القادر على إخراجها منا وإخراجنا منها.
من يريد أن يقرأ اليوم أو يسمع تفاصيل تلك الحياة التي كانت تنحصر بين زقاقين ونيف، تدور بطيئة لزجة في الظلمة والعطش؟ حياة مفاتيحها بين أيدي فتيان مسلحين بلحى يأتمرون بأوامر أمراء شوارع نحيا ونموت على وقع أمزجتهم وحساباتهم.
كيف، وهم هم من يملكون منذ ذلك اليوم مفاتيح الموت والحياة؟
لكنه موت بطيء، ما نحياه اليوم. مازالت لعبتهم قائمة، وحسابات الربح والخسارة لم تتغير: نحن البيادق، وكلما جمع طرف منهم عددا أكبر منا، اقترب أكثر من الفوز. ونحن ننساق، في كل مرة. نتكتل كالأشياء بالقرب من أحدهم. نقتنع أن ما من وسيلة أخرى لرد العوز، والمرض، والجهل، والعراء عن أولادنا. أو نقتنع بأن الهجرة هي الحل.
نحن وقود نار نضرمها في كل مرة لتحرقنا. نحن ندور كالفراشة حول ضوء ليس ضياء، تلسعنا شراراته ونستمر، ونقنع أنفسنا أن ما من سبيل آخر.
والاستهتار بالأرواح الذي ساد بين العامين 1975 و1990 مازال سائدا. توقفوا عن قتلنا بالرصاص والصواريخ. باتت سبل القتل متنوعة: فساد، سرقة منظّمة، تجهيل، عوز، مياه ملوثة، نعرف بوجودها ولا نملك إلا أن نشرب منها. طرقات بحفر كفيلة بازهاق حصيلة يومية ثابتة من الأرواح. مبيدات محظورة لإنضاج ما نأكله ونطعمه لأطفالنا. مليارات الدولارات من شقائنا ومن مستقبل أولادنا لكهرباء مظلمة وظالمة. قوانين تطبق اعتباطيا، وأخرى لم يعد يتذكرها أحد. نساء بأولاد بلا جنسية. مغتربون لم يطأوا أرضها يقررون من يحكمها. سكاكين وأياد تتشابك في ملاعب مدارس يفترض أنها حكومية. مرضى يلفظون أنفاسهم الأخيرة على أبواب مستشفيات توصد في وجه آلامهم. أخطاء طبية قاتلة تحميها قوانين نقابية، تكاد تشرعها. مبان تنهار فوق أجساد أصحابها. أطراف تتجمد كل شتاء، ولا تجد إلا أغصان الأشجار النضرة وسيلة لرد البرد. غلاء مستشر. محاكم معطلة. هيئات أمنية تفتقر إلى المصداقية. أدوية فاسدة ومنتهية الصلاحية. زحمة سير، غني وفقير، قلة ذوق. وعلى فكرة، أين تقع عكار؟
أطفال دون الخامسة ينتزعون من أحضان أمهاتهم بحجة أن الأب أولى، وأجدر. نساء تذوين لأن لا قوانين تحميهن: في الزواج، في الطلاق، إن عنفن، إن ضربن، وحتى إن قتلن بداعي “الشرف”. رجال تمتهن كراماتهم في سعيهم للعيش الكريم. أصحاب حاجات خاصة مهملون، مخدرات على أبواب المدارس، “جامعات” خاصة بمناهج “خاصة جدا”. “فنانات” وفنانون على قدر عدد الفانات. سيارات أجرة عددها يكاد يفوق عدد الركاب. باصات عملاقة فارغة تجوب شوارع المدينة ومحيطها. مخيمات فلسطينية محاصرة، مهانة، وعرضة لهجوم مسلح في أي وقت.
سني وشيعي، عوني وقواتي. سوريا واسرائيل. مستوصفات ومدارس خاصة لكل المذكورين. حياة رديفة، رشوة مستترة، خدمات تضرم النار كلما خمدت.
لم تنته الحرب. انتهى تساقط الحمم المعدنية. كيف يستتر ما نعيشه اليوم تحت قناع السلم الأهلي؟
لم تنته الحرب، فقط تلاشى الأمل الذي كان يحفز على الصمود في وجهها، الأمل بما سيكون يوماً أن هي توقفت..
لم تنته الحرب. لم تنته قط. ما حصل هو أن قانون عفو صدر. هم أصدروه. هم عفوا عن أنفسهم. ونحن مازلنا نتكتل من حولهم.
وهم، لم يعفوا عنّا: تبييض أموال، نهب للمال العام، تهرّب ضريبي، إلخ.. ثمّ، لم يكتفوا، فاستولوا على ما في جيوبنا أيضا، وأعلنوا إفلاس البلاد، وزاد ثراؤهم.
ماذا يعني أن تجلس اليوم في منزلك، وتتمنى أن يطيعك قلبك ويتوقف عن الخفقان: ماذا سأفعل إذا؟ قوت ابنتي، أقساط المدرسة، ثمن الدواء، كلفة المرض، وشيء من الماضي اسمه الغدّ ….
ماذا أفعل بعد؟ لقد عملت من كل قلبي وعقلي لعشرات السنين. وفرّت ما يمكن أن يغطي كلفة تعليمها، ثم صادر المصرف الجنى والضنا. هكذا.
لا مسكن للألم في الصيدليات. رفوف محلات التسوق نصفها خاو. أسعار النصف الممتلئ تجعلك تسرع بالابتعاد عنها.
ماذا فعلت؟ ماذا فعلت غير ما يفعله الآخرون كلهم؟ درست. عملت. مرضت. تجاوزت عددا لا بأس به من الحروب. وقعت. نهضت. وقعت مجدّدا ثم عدت ونهضّت مرارا، بعدها عدت وعايشت حربين أو أكثر قليلا أو أقل. ثمّ نهضت وعدت إلى العمل. كما كلّ الناس.
كان لدي ما أفعله هنا. كان لدي ما أقوله هنا. كان هنا هو كل شيء. ثم، لفظني الهنا…لفظني حتّى جعلني ألفظه، لدرجة أني نبذت نفسي.
أين أذهب الآن؟ كيف أرسم غدها بعد؟
الكارثة حلّت، وأنت مازلت تجلس تخشاها تنتظرها وكأنّها لم تحلّ بعد وتعرف أنك، هذه المرة، لن تهزمها.. ولكن، وأنت جالس تنتظر (ما هو قائم)، ماذا تفعل؟
في كلّ ما كان قبل اليوم وحلّ، شعور واحدُ لم أعرفه يوما: الخوف. تعرّفت عليه أخيرا. من قبل، كان للطريق معالم ومسار ووجهة للوصول. لم يعد اليوم من طريق. لم يعد اليوم من وجهة. أضحى هناك فراغ كبير، يودي إلى مجهول هائل.
مع الوقت، مع القهر، تسقط المعاني عن الأشياء كلّها. ماذا يعني أن تستيقظ كلّ صباح وتغيّر ملابسك؟ أو تستحم؟ أو تغطيّ الشيب الذّي انتشر في شعرك؟
ماذا يعني كلّ ما اقتنيته على امتداد أعوام: كتب ولوحات وأسطوانات موسيقيّة، أي، أشياء “تحبّها”. ماذا يعني فستان جدّتي الّذي احتفظت به يوم وفاتها.. للذكرى؟
ماذا يعني أن تنظر إلى وجهك في المرآة؟
لماذا تتصّل بمن تحب أو تعرفه؟ ما ستقوله بات مكرّرا حتى فقد معناه: غلاء. مرض. غبن. خوف. لا أمل. لا ضوء في نهاية النفق. “كيفك؟” كيف أنا؟ كلّ شيء واضح ومكشوف. كيف يمكن أن أكون؟
حتى خبر الموت يكاد يتحوّل إلى مجرد معلومة تخفّ وطأة تأثيرها مع ارتفاع أعداد الموتى. تدفع النهار بيديك كي يمضي وتعود إلى النوم. لا شيء هنا. لا حياة.
أقاطع الأخبار، مكتوبة ومرئية ومسموعة، ثم ذات يوم أقرّر أن أتلصص على حياتي، فافتح على نشرة الأخبار، وأغيّر القناة بعد دقائق.
سريعا حلّ واستقر، أمّ أنّه كان يتغلغل ببطء، ثم هبط مدويّا حتّى استوطن الأماكن والمكامن كلّها؟
سريعا حلّ، بعدما كان يتغلّغل ببطء. القهر.
كورونا هنّا ليست سوى تفصيل طارئ. سبب آخر للموت المجاني على أبواب المستشفيات.
تسقط المعاني كلّها. حتى في عزّ الحرب كان شارع الحمرا لي، يشبهني وأشبهه. ما هذا الذّي حلّ مكانه الآن، هنا؟
صوت زخّات المطر، العصفور الصغير الذي يزور شرفتي كلّ صباح لدقائق قبل أن تحمله جناحاه إلى حيث يريد. الياسمينة التي أزهرت في الشهر الأول من السنة، الزرع الذي أراه من خلال الزجاج، من “مقرّي” على الكنبة، والذي ينمو لأنّني أهتّم به أحيانا. صوت الرعد الذي يدفعني في كلّ مرة كي أتمنّى لو أن لديّ حضنا يلفّني مع صرخاته. أشعة الشمس المتسلّلة بدفء كي تتفتّح شقائق النعمان في حقول فلسطين في آذار، “شهر الفصول المدللّ”. عيناها، ووجه أبي. كلّ هذه، لا أريد لمعناها أن يستمر في التسّرب من بين أصابعي. وحده معناها أريده أن يبقى.
أريد أن أصرخ بأعلى صوت. أريد لصوتي أن يطير نحو السماء، ويرتطم بالأرض، ويتخبّط يمينا ويسارا حتّى يصبح أعلى. لا أريد له مستمعين. أريد فقط أن ينطلق، يتبعثر، أن يحمل هذا الثقل الذي في قلبي إلى الخارج، إلى خارجي، وأعود كالجماد من جديد.
ينشر بالتزامن مع موقع جدلية