لكأن تريم عمران قد اختار بنفسه ساعة الرحيل، شأن الفارس الذي يترجل معلناً انسحابه من ميدان لم يعد يتسع للصهيل.
من تريم عمران؟
إنه واحد من العناوين المضيئة لعروبة الخليج، ومؤسس أولى المنارات الناشرة للوعي، السياسي والثقافي والاجتماعي، في منطقة كان الاحتلال البريطاني قد عزلها عن أمتها، ثم جاءت خيرات أرضها بمخاطر إضافية على هوية أهلها، الذين كانوا أعجز من أن يحموها إلا إذا عصمهم انتماؤهم القومي.
وليست الكتابة عن تريم عمران ودوره، عبر جريدة »الخليج« التي سرعان ما تحولت الى مؤسسة متعددة النتاج، تعصباً لرائد من رواد الصحافة العربية في بلاد ما خلف النهرين، أو وفاءً لرفقة سلاح في مواجهة حال التردي التي تفاقمت حتى ساد اليأس ليلاً بعيد الإصباح.. فالغياب، هنا، خبر »سياسي« يضيف الى الهزيمة بُعداً إضافياً شديد الوطأة، ذلك أن المتبقين من الرواد قلة قليلة في زمن اتفاقات الصلح المنفرد ومبادرات السلام المرفوض مع عدو بات مصيرنا مرتهناً لديه.
إن غياب تريم عمران، في هذه اللحظة، أشبه باحتجاج مدوّ على أننا ارتضينا، بل لعلنا مشينا بأقلامنا إلى هزيمة تفوق طاقتنا على التحمل واستنقاذ الغد من براثن تداعياتها، لأننا انتقلنا من الاستهانة بالعدو الى الاستهانة بأنفسنا حتى مشينا الى الهزيمة بأقدامنا… بل لعلنا قد نسجنا من الذرائع والتبريرات وادعاء العجز شبكة ثم حبسنا أنفسنا فيها، في انتظار أن يحقق لنا »الصديق الأميركي« الكبير مع »السلام« السلامة، ومع »التخلف« الديموقراطية، ومع »الثروة« العدالة والتقدم والازدهار الخ…
لم تسقط علينا الهزيمة من خارجنا. كانت مقدماتها واضحة تماماً، تُنسج خيوطها أمام عيوننا (وأحياناً بأيدينا)، عبر المساومة والتفريط والانفراد، سياسياً، عبر الانهيارات الاقتصادية التي ضيّعت فيها ثروات خرافية، عبر التردي الثقافي بدءاً ببرامج التعليم ومستوى هيئات التدريس والتسليم بنقص أهليتنا، والعجز عن استعادة أبنائنا الذين نوفدهم للدراسة في الخارج فإذا ما انتبهوا الى الفوارق بين الأحوال في ديار الغربة وأحوالنا في بلادنا فضلوا أن يعيشوا غربة عن الوطن حتى لا يعيشوا أغراباً في أوطانهم.
ولقد كان تريم عمران واحداً من الذين حاولوا حتى الرمق الأخير، فأدى دوره الريادي، في المجلس الوطني الاتحادي، ثم في الصحافة، كمعبّر ليس فقط عن المشاعر القومية التي تتلخص في حماية عروبة الخليج بالعرب الوافدين إليه من مختلف الأقطار بل عن ضرورة ترشيد الثروة الوطنية وتوظيفاتها، وحماية الحاكم من جاذبية السلطة بإشراك الناس في القرار، ملتزماً إيمانه بأن حماية عروبة الخليج تبدأ بحماية عروبة فلسطين، ومبشراً بأن الخليجيين أصحاب مصلحة في توطيد التضامن العربي، وان الاستعانة بفقراء العرب ليست خطراً على الثروة بل إن هؤلاء الفقراء هم بعض الحماية بوجودهم ذاته ثم بجهدهم في إعمار المنطقة الجاذبة لأطماع الأجنبي.
ان غياب تريم عمران خسارة قومية، وليس خسارة لأهله الأقربين في الشارقة ومن ثم في دولة الإمارات فحسب. ان الشعور بالفقد سيمتد من المغرب الأقصى الى اليمن، مروراً بالجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان وصولاً الى لبنان وسوريا والعراق وانتهاءً بالجزيرة وخليجها.
وليس ما يخفف من آثار هذه الخسارة الداهمة إلا أن تستمر »الخليج« صحيفة ومؤسسة إعلامية ثقافية كبرى في نهجها القومي، وفي التزامها بخطها، خصوصاً ان الآتي من الانكسارات أعظم.
سلاماً آل عمران.