طلال سلمان

تركيا واسرائيل اين عرب

لن ينهي الاعتذار الإسرائيلي الأزمة المرشحة لمزيد من التعقيد والتصعيد مع الحكومة التركية. فالإهانة التي وُجّهت إلى تركيا أخطر من أن يمسحها نفاق نتنياهو المكشوف الذي جاء رداً على «إنذار» أنقرة… فنائب وزير الخارجية الإسرائيلية الذي تقصّد «تحقير» السفير التركي، بالصوت والصورة، وبالمضمون الناطق قبل الشكل الفج، لم يكن يتصرف وفق هواه، بل كان ينفذ قراراً سيادياً بأسلوب فج ومسيء إلى كرامة تركيا دولة وشعباً وحكومة تحظى بمكانة دولية ممتازة، فضلاً عن شعبيتها الكاسحة التي أكدتها عبر مسلسل من المواجهات المحتدمة، في الداخل، مع مؤسسة الجيش، بكل عتوّها وهيمنتها على الحياة العامة في تركيا لأجيال، مصفّحة بالصورة المقدسة لأتاتورك، والدعم الأميركي المفتوح… ومن ضمنه تلك «العلاقة المميزة مع إسرائيل»، وقد كانت قاعدتها العداء المشترك للعرب (حين كان لهم وزن…).
تركيا أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية، الإسلامي التوجه مع اعتدال وعقلانية لافتة) هي الآن دولة محورية في المنطقة، وقد استطاعت أن تستعيد احترام العالم من دون أن تتنازل عن كرامتها أو عن مصالحها الوطنية… بل لعلها قد عززت تلك المصالح بشهادة الأرقام الفلكية لحجم الصادرات التركية.
أما مع العرب فإن حكومة أردوغان لم تنجح في مسح حقبة العداء فحسب، بل هي تجاوزتها إلى آفاق رحبة من التعاون المثمر، كما أنها تحظى الآن بالإعجاب والتقدير العالي.. ويجهر ملايين العرب بتشوقهم لأن تقوم في بلادهم، ذات يوم، حكومة على مثل هذا القدر من الكفاءة والشجاعة الأدبية التي تأبى عليها أن تموّه شعاراتها أو أن تتخلى عن المبادئ التي قام عليها حزبها وأوصلتها إلى سدة السلطة. إنها حكومة إسلامية، في الأساس كما في الشكل، ولا حياء في الدين، ولا تقية أو تمويه ولا انفصال عن برنامج حزبها الذي أوصلها إلى السلطة بشعبيته الجارفة، ثم تولت قيادته حماية وجودها فيها بكفاءتها ومبادراتها الشجاعة في تخطي الحواجز وتجديد ارتباطها بمنطقتها.
ليس سراً الآن أن الجمهور العربي يغبط الأتراك على حكومتهم الممتلئة حيوية والتي لا تتوقف عن المبادرات واقتحام ما كان صعباً بل وفي حكم المحرّم، كمثل الموقف من إسرائيل وحروبها المفتوحة على الشعب الفلسطيني وآخرها حرب المذابح التي جعلت من غزة هاشم أرضاً محروقة.
وليس سراً، الآن، أن رجب طيب أردوغان هو «بطل» في نظر الأكثرية العربية، تقدر فيه شجاعته وصدق مواقفه، ومبادراته المتلاحقة التي يريد بها توكيد الدور القيادي لتركيا في هذه المنطقة التي يتناقص فيها تأثير أهلها العرب حتى ليكاد يندثر.
وتتعاظم صورة أردوغان في العين العربية وهذه الملايين من الرعايا العرب، يفتقدون في النظام العربي بمجمله انتسابه إليهم والحكم باسمهم ولمصلحتهم وحماية كرامة أوطانهم.
من باب المقارنة الخاطفة، ليس إلا، يمكن الإشارة إلى أن أحد كتبة السلطان، في بلد عربي عظيم كمصر، دبج بالأمس مقالاً مهيناً لكرامة شعبه… إذ إن الكاتب الذي يشغل أكثر من موقع رسمي (وشعبي!! إذا ما تذكرنا أنه نائب) قال بصراحة فجة إن الرئيس المقبل لمصر، أي رئيس مقبل، لا بد أن يحظى بموافقة الإدارة الأميركية وإسرائيل!
المصادفة هنا مذلّة: ففي الوقت التي كانت تركيا تجبر نتنياهو، بكل جبروت التطرف الصهيوني فيه، على تقديم اعتذار علني، كان كاتب السلطان المصري يتبرع لإسرائيل بحق الفيتو على أي مرشح لرئاسة أكبر دولة عربية وأعظمها رصيداً بتاريخها وبدورها التنويري وببسالة جيشها في مواجهة دولة العدوان الإسرائيلي المفتوح وبقدرة شعبها على اختراق المستحيل، كما يشهد له تاريخه.
لنعد إلى تركيا وحكومتها، بل قيادتها الإسلامية المتميزة بحيوية فائقة جعلتها «مركزاً» أساسياً في المنطقة وأكسبتها رصيداً دولياً محترماً…
إن هذه القيادة المبادرة إنما تحقق في مجال حركتها عربياً نجاحات باهرة لتركيا: سياسياً واقتصادياً… فالدول العربية إجمالاً استثمار مجزٍ، ثم إنها بغالبيتها أسواق، يمكن أن تبيع لها كل شيء، من الماء والكهرباء إلى الصناعات الاستهلاكية إلى المواد الغذائية والملبوسات… ثم إنها حصدت التزامات ونفذت مشاريع بنى تحتية بالمليارات في مصر وتونس وليبيا وقطر والإمارات… وها هي تلغي التأشيرات مع الدول العربية.
ولعل مبادرة سوريا إلى تجاوز حساسيات الماضي والتأسيس لعلاقة استراتيجية مع هذا الجار الكبير، هي بين عناوين النجاح للحكومة التركية كما للقيادة السورية التي نسجت ما يشبه «التحالف» مع الجارة التي كانت خصماً، بل لعلها في مراحل معينة قد تساوت في العداء مع إسرائيل، في العين العربية، قبل أن يجيئها الحكم الذي أعاد إليها هويتها ودورها.
على أن المواطن العربي المرحب بهذا التحوّل الذي أعاد تركيا إلى موقعها الطبيعي كجارة كبرى صديقة ويجمعنا بها تاريخ طويل وحافل، فيه الحلو والمر، لكن الجغرافيا والمصالح تفرض أن يكون طيباً، بل ممتازاً في ضوء السياسات التي تعتمدها حكومة أردوغان، يقبع تحت سيطرة النظام العربي المهيمن الذي «يبيعه» إسلاماً غير الإسلام كوسيلة لإخراجه من العروبة، و«يبيعه» التنازلات عن أرضه الوطنية باسم «الواقعية السياسية»، و«يبيعه» التردي الاقتصادي والاجتماعي باسم مقتضيات العولمة والخضوع لمنطق السوق الذي تتحكّم به الهيمنة الأميركية… فإذا ما اعترض أو عارض كان قمعه مدمراً، وممهداً للاحتلال الأجنبي (كما آلت إليه حال العراق) أو لتمدد الاحتلال الإسرائيلي فوق كامل الأرض الفلسطينية، كما يجري أمام عيوننا في المقدسة فلسطين.

Exit mobile version