سئل الرئيس دونالد ترامب عن تبرير لعلاقته الودية بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين رغم علمه بأن تاريخ روسيا يؤكد أن قادتها من القتلة. أجاب الرئيس الأمريكي بأن ما يقوله الصحفي صحيح. هناك في روسيا كثير من القتلة. “نحن أيضا لدينا كثير من القتلة. هل تظن أن بلدنا برئ تماما”.
ورد هذا الاقتباس في مقابلة صحفية جرت بين الرئيس الأمريكي وأحد الصحفيين في مقال كتبه Adam Hochschild بالعدد الأخير من “The New York Review of Books”. أراد الكاتب في العرض الذي قدمه لثلاثة كتب صدرت أخيرا عن تطور الحياة السياسية في أمريكا عشية الحرب العالمية الأولى، أراد أن يثبت أن ترامب ليس الرئيس الوحيد في التاريخ الأمريكي الحديث الذي مارس التمييز العنصري عن اقتناع واستخدم القمع والعنف أو برر استخدامهما ضد معارضيه وتعامل مع خصومه السياسيين باعتبارهم خونة للوطن.
ترامب رجل يكذب باستمرار. قال عن الرئيس السابق للولايات المتحدة باراك أوباما أنه لم يولد في أمريكا. التصريح في حد ذاته كاذب فضلا عن أنه، كما يقول “Hochschild”، يكشف عن عنصرية بغيضة. ترامب هو الرئيس الذي ضرب الصحافة، بل الميديا الأمريكية بأسرها، في الصميم أكثر مما ضربها رئيس أمريكي آخر. هو الرئيس المدافع عن الوطنية وحب أمريكا وهو نفسه الذي ساوى بينها وروسيا في تصريحه عن وجود قتلة بين قادتها وفي شعبها. بل إنه بهذا التصريح لعله كشف عن قلة خبرته السياسية وعدم نضجه، إذ كيف يتحدث عن روسيا وعن رئيسها بكل هذا الود. ألا يعلم، أو كان يجب أن يعلم، أن الشعب الأمريكي لا يحب روسيا وبالتأكيد لا يحب بوتين.
جلب الرئيس ترامب لنفسه وإدارته وحزبه انتقادات واسعة داخل أمريكا ولكن بالأخص داخل أوروبا والعالم الإسلامي حين نطق أو غرد بعبارته الشهيرة “أعتقد أن الإسلام يكرهنا، هناك شيئ ما. هناك كره هائل. هناك كره لنا لا يمكن تصديقه”. هنا أيضا أثبت الرئيس خصائص عديدة تجمعت في شخصه. أثبت أنه الرئيس الأمريكي الأشد وضوحا في تصريحاته المباشرة والعدوانية. أثبت أيضا مرة أخرى سوء أو قلة خبرته وحنكته السياسية. كان يعلم أو يفترض أن أحدا من مساعديه أخبره أن لأمريكا حلفاء في أوروبا لديهم مشكلات داخلية بسبب هجرة مئات الألوف من المسلمين إليها في السنوات الأخيرة وأن هذه التصريحات ومواقف أخرى للرئيس تزيد المشكلات تعقيدا في وجوه أقرانه من حكام أوروبا. ناهيك عن صدى هذه التصريحات في العالم الإسلامي خاصة وأنه لا يميز في تصريحاته هذه بين المسلمين على وجه العموم وبين المجاهدين أو الإرهابيين.
***
ماذا كان يمكن أن يحدث لمسلمي الولايات المتحدة والخصوم السياسيين للرئيس ترامب وعموم الإعلاميين الأمريكيين لو لم تكن هناك قيود استجدت بعد الحرب العالمية الثانية تحد من حرية السلطة الأمريكية في الانتقام والترويع؟ يطرح الكاتب هذا السؤال الذي سبق لكثيرين في أمريكا وخارجها طرحه منذ وصول الرئيس ترامب إلى الحكم بل وطرحناه أثناء الحملة الانتخابية، ولعلنا استبعدنا فوزه ونحن نجيب على هذا السؤال. أتذكر هذا السؤال كلما وصل إلينا خبر أو تغريده من أمريكا تحمل معنى مطاردة أو حبس أو ترحيل مهاجرين عاشوا في أمريكا عشرات السنين، أو تحمل معنى الاستهانة بقتل عنصريين بيض لسيدة بيضاء مثلهم ولكن متعاطفة مع قضايا الأمريكيين من أصول إفريقية .
يجيب الكاتب “Hochschild” استنادا على ما ورد في كتاب للسيدة “Margaret Wagner” بعنوان “أمريكا والحرب العظمى” وكتب أخرى فيقول إن إجابته موجودة سلفا في أمريكا ذاتها قبل مائة عام بالتمام، أي منذ لحظة دخولها الحرب العالمية الأولى وربما قبلها بعشرات السنين. في تلك اللحظة ولسنوات ثلاث ونصف بعدها تعرضت أمريكا لحملة رقابة على الصحف غير مسبوقة في تاريخ الإعلام واعتقالات بالجملة وعمليات إرهاب وترويع للمهاجرين من أصل ألماني. صحيح أن الرئيس ويلسون ورث مجتمعا منقسما على نفسه ممتلئ بالكره ومحبا للحرب وكارها للألمان ومتشبعا بالأفكار العنصرية والعدوانية التي غرسها حكم الرئيس تيودور روزفلت المعروف تاريخيا بعاشق الحروب، ولكن أيضا لأنه، أقصد الرئيس ويلسون، لم يكن يخفي عدم اطمئنانه إلى تسعة ملايين مواطن ومهاجر من أصل ألماني وأربعة ملايين ونصف من أصل ايرلندي ضد التحالف مع بريطانيا، ومئات الموظفين الفدراليين المنضوين تحت لواء الاشتراكية وآلاف القياديين النقابيين الذين لا يعترفون إلا بحرب واحدة تدخلها أمريكا وهي الحرب ضد الرأسماليين الأمريكيين. نشبت الحرب حربين، حرب في الخارج ضد ألمانيا وحرب في الداخل ضد كل من يشتبه في تعاطفه مع الألمان وضد الصحف والمجلات اليسارية والنقابيين. كان الرئيس ويلسون يقول بكل صراحة ترامبوية إن صح التعبير، “هناك بين مواطني الولايات المتحدة، من أخجل بأن أعترف أنهم ولدوا تحت رايات دول أخرى مغروسا فيهم سم الخيانة وعدم الولاء، مخلوقات نشأت على عدم الإخلاص ويجب سحقها”.
***
سبق دخول الحرب حملة ضد المواطنين من أصل ألماني قادها بنفسه الرئيس ويلسون لبث الفرقة والكره داخل المجتمع ضدهم. وما أن قامت الحرب إلا وراح الرئيس يأمر باعتقال المواطنين من أصل ألماني. نتحدث هنا عن ملايين الناس. اعتقلوا كل من يلقب باسم شميدت، حتى راح الناس يغيرون اللقب إلى سميث. أقاموا حفلات ليلية في شتى المدن لحرق الكتب المدرسية باللغة الألمانية، صدرت الأوامر باعتقال قائد أوركسترا أوبرا مدينة بوسطن اشتباها في أنه يرسل عبر الأنغام رسائل شفريه إلى القيادة الألمانية في برلين. أهالي مدينة برلين في ولاية آيوا غيرت اسمها فصار لنكولن، والهامبورجر أصبح سالزبري ستيك والحصبة الألماني صارت حصبة الحرية، وراحت صحيفة “New York Herald” تنشر أسماء السكان من أصل ألماني. وسط هذه التعبئة تشكلت فرق من “البلطجية” أطلق على واحدة منها اسم فرسان الحرية لمساعدة الشرطة في القبض على النقابيين واليساريين والمتعاطفين مع الألمان وتسليمهم للقائد العسكري المحلي لمحاكمتهم عسكريا وإصدار الأحكام في أقل من نصف ساعة وشنق من تثبت إدانته.
كانت الحرب دائرة في الخارج وحرب أخرى دائرة في الداخل حين دعا الرئيس ويلسون إلى إنشاء عصبة الأمم لتتولى تسوية النزاعات سلميا. هذا التناقض الذي تميزت به السياسة الأمريكية عبر تاريخها الحديث ظهر في أجلى معانيه عندما قرر الرئيس ويلسون قبل نهاية الحرب الاستعداد لعودة أكثر من أربعمائة ألف أمريكي من أصل إفريقي شاركوا في الحرب. هؤلاء سوف يعودون غاضبين. هؤلاء قال عنهم الرئيس ويلسون أنهم يعودون حاملين الأفكار البلشفية ولا بد من الاستعداد لهم بالقمع والعنف. وبالفعل جرت لألاف منهم محاكمات صورية وشنق منهم ثمانية وسبعين على قمم الأشجار.
***
ما هي الدروس التي يمكن أن تفيدنا من التعمق في دراسة حرب انتصرت فيها أمريكا عسكريا، ولكن فقدت فيها معنى وقيم وجودها وكشفت عن تناقضها، تناقض الممارسة مع المبادئ والأخلاق؟ يتساءل الكاتب ويحاول الإجابة. يقول أن الأحداث الداخلية التي رافقت دخول أمريكا الحرب العالمية الأولى تنبئ بأنه عندما تسود البلاد حالة توتر اجتماعي شديد وهستريا مجنونة تتناسى الحكومات المبادئ والحقوق والأخلاق والحريات. يزعم البعض أن الشعب لم يعرف حقيقة ما يدور. لم يطلع على التفاصيل التي لو علم بها لتدخل ومنع السلطة من ارتكاب المجازر وممارسة إرهاب الدولة. الحقيقة التي تثبتها التطورات هي أن الشعب كان يعلم ولم يتحرك أو ينطق.
أما الدرس الأهم، ولعله هدية السماء إلى الحكام، فهو الحرب. أن يذهبوا إلى الحرب إذا دعت ضرورة التخلص من عتاة الخصوم السياسيين في الداخل وتأزمت الحالة الاجتماعية أو الاقتصادية. عند الحرب لن تعتبر الحكومات الانشقاق عنها والاحتجاج ضدها مجرد أخبار زائفة وإعلام مغرض وجهل أو نقص في المعلومات بل خيانة للوطن.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق